مقدمة

إنّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

وبعد :

Alhamdulillah, berkat Taufiq serta Hidayah-Nya, akhirnya blog sederhana ini dapat terselesaikan juga sesuai dengan rencana. Sholawat salam semoga selalu tercurah kepada Nabi Muhammad SAW beserta keluarga dan sahabat-sahabatnya.

Bermodal dengan keinginan niat baik untuk ikut serta mendokumentasikan karya ilmiah perjuangan Syaikhina Muhammad Najih Maemoen, maka sengaja saya suguhkan sebuah blog yang sangatlah sederhana dan amburadul ini, tapi Insya Allah semua ini tidak mengurangi isi, makna dan tujuhan saya.

Blog yang sekarang ini berada di depan anda, sengaja saya tampilkan sekilas khusus tentang beliau Syaikhina Muhammad Najih Maemoen, mengingat dari Ponpes Al Anwar Karangmangu Sarang sudah memiliki website tersendiri yang mengupas secara umum keberadaan keluarga besar pondok. Tiada lain tiada bukan semua ini sebagai rasa mahabbah kepada Sang Guru Syaikhina Muhammad Najih Maemoen.

Tidak lupa saya haturkan beribu terima kasih kepada guru saya Syaikhina Maemoen Zubair beserta keluarga, terkhusus kepada beliau Syaikhina Muhammad Najih Maemoen yang selama ini telah membimbing dan mengasuh saya. Dan juga kepada Mas Fiqri Brebes, Pak Tarwan, Kak Nu'man, Kang Sholehan serta segenap rekan yang tidak bisa saya sebut namanya bersedia ikut memotifasi awal hingga akhir terselesainya blog ini.

Akhirnya harapan saya, semoga blog sederhana ini dapat bermanfa’at dan menjadi Amal yang di terima. Amin.

Minggu, 30 Mei 2010

تصنيف أحمد بن يحيى بن إسماعيل الكلابي الحلبي الأصل في الرد على ابن تيمية

تصنيف أحمد بن يحيى بن إسماعيل الكلابي الحلبي الأصل
في الرد على ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم شأنه القوي سلطانه القاهر ملكوته الباهر جبروته الغني عن كل شيء وكل شيء مفتقر إليه فلا معول لشيء من الكائنات إلا عليه.
أرسل محمدا  بالمحجة البيضاء والملة الزهراء فأتى بأوضح البراهين ونور محجة السالكين ووصف ربه تعالى بصفات الجلال ونفى عنه ما لا يليق بالكبرياء والكمال فتعالى الله الكبير المتعال عما يقوله أهل الغي والضلال لا يحمله العرش بل العرش وحملته بلطيف قدرته مقهورون في قبضته أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه  يسأله من في السموات والأرض  لافتقارهم إليه,  كل يوم هو في شأن  لاقتداره عليه.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه ومبلغ أنبائه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد, فالذي دعا إلى تسطير هذه النبذة ما وقع في هذه المدة مما علقه بعضهم في إثبات الجهة واغتر بها من لم يرسخ له في العليم قدم ولم يتعلق بأذيال المعرفة ولا كبحه لجام الفهم ولا استبصر بنور الحكمة فأحببت أن أذكر عقيدة أهل السنة والجماعة ثم أبين فساد ما ذكره مع أنه لم يدع دعوى إلا نقضها ولا أطد قاعدة


مـذكـّــرة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أحد العلماء رحمه الله في وصف ابن تيمية ومؤلّفاته:
لقد وقفت على تصنيف مستقلّ في الرد على ابن تيمية وأمثاله القائلين بالجهة ألفه العلامة الحافظ تقيّ الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز الحصني الدمشقي الحسيني المتوفى سنة 829 هـ، وهو قريب العهد إلى زمن ابن تيمية وأعرف الناس بأحواله وكلامه وزلقاته. ونقل عنه من الكلام لابن تيمية ما خرق فيه الإجماع بل خرج من الدين؛ كان يقول في التناسخ وإثبات الجهة لله تعالى، ويقول بفناء النار ورمى سيدنا عمر بن الخطاب بالخطأ الفاحش، ورمى علي بن أبي طالب بالجهل وأنه أخطأ أكثر من ثلاثين مسألة ذكر ذلك في كتابه "المنهاج" ومسألة الطلاق وتكفير المتوسلين بالأموات والمنع عن زيارة النبيّ  ومسائل أخرى عدّها الفقيه ابن حجر في حاشيته على شرح الإيضاح للنووي أكثر من سبعين مسألة التي زلّ فيها ابن تيمية. ولقد قام أنصاره يدافعون عنه بسيف من خشب يأتون ببراءته والحجة نطقت في كل زمان على ابن تيمية، فيكفي لنا كلام معاصريه في الردود عليه وكتبهم التي ألفوها عليه. وهذا الحافظ ابن حجر من أنصف الناس فيه نقل ترجمة ابن تيمية في كتاب الدرر الكامنة عن الذين حضروا عصر ابن تيمية كلهم يحكون عليه بالسوء وهذه شهود الخلفاء والأمراء الذين سجنوه بحكم القضاة في عصره عليه. منهم من أفتى بزوال عقله وعفا عنه ثم سجن بعد ذلك وحكم عليه بالضرب، هذا ابن الزهراء المالكي، كان ممن حضر الكلام في مسجد دمشق عام.......هجرية.
تكلم ابن تيمية بعد الصلاة فأخرجوه من المسجد بسبب الكلام في التشبيه والتجسيم وشهد على ذلك في أيّامه العلامة الرحالة الكبير أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المالكي المعروف بابن بطوطه في رحلته. وحكي عنه بالصدفة أنه دخل دمشق فرأى ابن تيمية حكم عليه قاضي القضاة وسجنه الملك الناصر، وقال ابن بطوطه وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة يعني ابن تيمية وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم فكان من جملة كلامه سمعته يقول: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه المالكي يعرف بابن الزهراء. ثم أن القضاة كتبوا عقدا شرعيا على ابن تيمية بأمور منكرة وبعثوا العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة فسجن بها حتى مات في السجن. انتهى.
ألا يكفي بشهادة ابن بطوطه على ضلالات ابن تيمية؟، - سامحه الله – ثم افتتن الناس بهوى ابن تيمية إلى يومنا هذا مشوا على طريقه ويقدّسونه ويقدسون مؤلّفاته.

وقفة مع ابن تيمية رحمه الله1)
وقبل أن ننهي الحديث عن هذا الأصل الثاني، لا بدّ أن أقف بالقارئ على بعض ما ورد لابن تيمية رحمه الله من اضطراب أو كلام عجيب فيما يتصل بهذا الأصل الذي نتحدث فيه.
فقد تحدث رحمه الله طويلا في (علم الكلام) وحكم دراسته وممارسته والاحتجاج في مسائل العقائد الإسلامية به، وانتهي بحمد الله إلى أن ممارسته ليس بدعة والاعتماد عليه في الدفاع عن العقائد الإسلامية ليس محرما، إذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني ما قد يكون من المقولات الباطنة، فإن الاستفادة من اصطلاحات الآخرين شيء لا مانع منه، كلما دعت الحاجة إليه، فهو يقول:
« وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة. وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه...».
إلى أن قال: « فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولّدة كلفظ (الجوهر) و (العرض) و (الجسم) وغير ذلك. بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات قد يكون فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معاني مجملة في النفي والإثبات...».
« فإذا عُرفتْ المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووُزنَتْ بالكتاب والسنة، بحيث يُثْبتُ الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة، كان ذلك هو الحق ».2)
أقول: وهذا ما اتفق عليه سائر المشتغلين بعلم الكلام قديما وحديثا، من أهل السنة والجماعة. فإن أحدا منهم لم يتبنّ المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة اليونانيين، ولكنهم لم يجدوا مناصًا من استعمال اصطلاحاتهم ومقاييسهم اللفظية في عصر انتشرت فيه هذه الاصطلاحات والمقاييس، بل فتن بمضموناتها من فتن من أمثال المعتزلة والجهمية وغيرهم.3)
ونحن نعلم أن الإمام الغزالي أبرز نموذج لمن أتقن معرفة اصطلاحات الفلاسفة ومقاهيمهم الفكرية، فاستعمل مصطلحاتهم في هدفين اثنين: بيانِ الحق الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله، وبيان الباطل الذي تغلغل في كثير من أفكار الفلاسفة ومفاهيمهم. فهو دعا إلى معرفة قواعدهم واصطلاحاتهم، حتى يكون المسلمون على بينة من العوار المخبوء خلف بريق تلك الاصطلاحات، ولا يؤخذوا ببريقها الزائف كما وقع للمعتزلة ومن حذا حذوهم.
ولكن ابن تيمية أنحى باللائمة على الغزالي بسبب خوضه في تلك المصطلحات والمقاييس، واتهمه أكثر من مرة، بما كان جديرا به أن يشكره عليه، انطلاقا من قراره الجازم بأن الاشتغال بعلم الكلام، لإحقاق الحق الذي جاء به القرآن والسنة، عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه.4)
بل إن ابن تيمية رحمه الله، ازداد حماسة في الهجوم على المنطق ومقاييسه واصطلاحاته، حتى لكأن فرط الحماسة أنساه ما قد قرره بشأن علم الكلام وجواز الاستفادة من اصطلاحات المناطقة وأساليبهم في بيان الحق ؛ فأخذ يقرر بأن ما يعتمد النظار من أهل الكلام من الأدلة العقلية شيء لا حاجة إليه ، ولا موجب للاشتغال به. فإن القرآن جاء بما يغني عنه.
إليك مثلا قوله في كتاب الرد على المناطقة: « فقد تبيّن أن ما عند النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية فقد جاء القرآن الكريم بما فيه من الحق، وما هو أبلع وأكمل منها على أحسن وجه، مع تنزهه عن الأغاليط الكثيرة الموجودة عند هؤلاء. ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره في كتابه (أقسام الذات): لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن »5).
وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية، على أذهان كثير ممن يقرؤون له، بسطحيه ودون صبر أو استيعب. فقد أخذوا يروون عنه مستدلين ومحتجين أنه أنكر الاشتغال أنه أنكر الاشتغال بعلم الكلام وحذر منه، وسفّه المشتغلين به والمؤلفين فيه، مع أنه قرر نقيض ذلك تماما، بل إنه خاض في المباحث الكلامية، طبقا للمقاييس الفلسفية في الجزء الثالث من مجموع فتاواه، خوضا سبق به أساطين علم الكلام الذين ينهال عليهم (السلفيون) كل يوم بالهجوم المقذع والنسبة إلى الابتداع. فقد تحدث عن العلاقة بين الوجود والموجود؛ وعن القدرة الصلوحية والتنجيزية في العبد، وهل توجد القدرة عند مباشرة الفعل أم قبلها؛ وعن الجبر والاختيار، وعن القدم بالنوع والحدوث في الجزئيات… وأوغل في ذلك كله أيما إيغال. وهو مما ينأى عنه بدون ريب منهج القرآن وطريقته في بيان عقائد الإسلام، على حدّ ما يقوله ابن تيمية، ويقرره في أكثر من مناسبة.
ولا شك أن خوض ابن تيمية هذا في علم الكلام ومسائله، ينسجم مع قراره الذي نقلناه عنه، والمتضمن جواز الاشتغال بهذا العلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ ولكنه لا ينسجم ولا يتفق أبدا مع هجومه العجيب والشديد في أماكن ومناسبات أخرى على المشتغلين بعلم الكلام المتعاملين مع أساليب المناطقة ومفاهيم الفلاسفة، مع العلم بأن أيّا من هؤلاء العلماء الداخلين في حظيرة أهل السنة والجماعة، لم يتوغل في مباحث علم الكلام، وبالمقاييس والمصطلحات المنطقية والفلسفية أكثر مما توغل ابن تيمية ذاته.
كما تحدث ابن تيمية أيضا عن علم المنطق والفلسفة، فانتهى بعد كلام طويل، وفي أكثر من مناسبة، ورسالة، إلى التشيع على هذا العلم والتحذير منه، وإلى التأكيد بأن كل من يمارسه وينظر فيه فهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجر عن تحقيق علمه وبيانه6) وزاد في التشنيع على المقبلين على هذا العلم، عن هذا القدر، أكثر من مرة. ولا حاجة لاستقراء مواقفه التشنيعية هذه، فهي أمر معروف عنه ورأي شائع وذائع له.
ولكن العجيب كل العجب، في هذا الأمر، أنه يصيح بكلماته التشنيعية هذه، وهو غارق في أقصى أودية التعامل مع المقاييس والموازين الفلسفية، موغل إلى أبعد حدّ في التعامل مع قواعد الفلسفة ومقولاتها ومفاهيمها!.
ولا يعنيني أنه، في استغراقه وإيغاله هذين، مؤيد لأفكار المناطقة والفلاسفة أو منتقد. إنما المهم أنه قد تعلم المنطق والفلسفة وأكبَّ على دراستهما بكل إقبال وجد، وها هو في حديثه عن المنطق والفلسفة يحاور ويناقش مناقشة الخبير البصير ثم الممارس المتمكن !.
فكيف يصح له بعد هذا أن يخاطب الناسَ عموما، كما يخاطب الوصيُّ والوليُّ القُصَّر الذين عُهد إليه برعايتهم، يقول لهم: لقد تعلّمت لكم الفلسفة والمنطق ووقفت على مقاييسهما ومفاهيمهما، فعلمت أن أكثر ما فيهما باطل من الكلام ووهم من القول، فلا تضيعوا بهما وقتًا ولا بتذلوا في سبيلهما جهدًا بدون طائل. فإن الاشتغال بهما عليكم حرام ومحظور !.
وإذا سلمنا أن لابن تيمية رحمه الله من قوة العارضة وحصافة الرأي، والاستقامة على دين الله، ما يجعله في مكان القدوة لسائر من بعده من الناس، أفليس اقتداؤهم بفعله خيرا من اقتدائهم بقوله الذي يتناقض مع فعله؟.
وما ذا صنع الإمام الغزالي أكثر من هذا الذي صنعه الإمام ابن تيمية، مع فارق واحد؛ هو أن الأول لم يحرم على الناس ما أباحه لنفسه. أما الثاني فقد تربع على مائدة الفلسفة يتناول منها ويعثو بأطباقها كما يحب، ويصيح في كل من حوله، يطردهم عن المائدة، ويحذرهم من أن يذوقوا منها مذاقا، لأن كل ما عليها طعام آسن ضار غير مفيد !!
أما أن الغزالي استعمل اصطلاحات المناطقة والفلاسفة وخلطها ببحوثه ومحاكماته العلمية، فهذا شيء لم ينكره عليه ابن تيمية، بل أعطانا الإذنَ فيه، كما تبين من النص الذي نقلناه عنه ؛ وأما أنه قد انطلى عليه شيء من أوهامهم أو انزلق إلى أي من الباطل الذي ضلوا في أوديته، فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه، بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه. وما عرف تاريخ الفلسفة رجلا مزق الأوهاف الفلسفية بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها، وانتصر للحق الذي دلّ عليه كتاب الله عز وجل، بالاصطلاحات الفلسفية نفسها، كالإمام الغزالي؛ بقطع النظر عما هو معلوم من كون الغزالي من البشر الذين يجوز في حقهم الخطأ والسهو والنسيان.
والعجب الثاني، أنه وهو المحذر من سمادير الفلاسفة وأوهامهم لم ينج من هذه الأوهام والسمادير، بل أصابه بعض من رشاشها. بل أصابه بعض من أخطر رشاشها؛ ومع ذلك فهو لم يتبنَّها ويعتقد بها من منطلق التثبت العلمي الجازم، ولكنه تطوح في شأنها تطوح المضطرب، وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة التائه وقع في مهمه لا يتبيّن سبيلا للخلاص منه.
أذكر من هذه الأوهام التي أصابته من عدوى الفلسفة وأهلها مسألتين اثنتين:
المسألة الأولى: ما جاء في تعاليقه على كتاب (مراتب الإجماع) لابن حزم, وقد سمى هذه التعاليق بـ(نقد مراتب الإجماع) وذلك في باب: (من الإجماع في المعتقدات), فقد علق على قول ابن حزم: اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له, خالق كل شيء غيره, وأنه تعالى لم يزل وحده لا شيء غيره معه. ثم خلق الأشياء كلها كما شاء. علق ابن تيمية رحمه الله على كلام ابن حزم هذا بقوله:
" قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق. ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك, فإن القدرية الذين يقولون إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله, أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ " ثم قال: " وأعجب من ذلك حكاية الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شيء غيره معه, ثم خلق الأشياء كما شاء". ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله . بل الذي في الصحيح عنه, حديث عمران بن حصين عن النبي  : (كان الله ولا شيء قبله, وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض). وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض). وروى هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ, روي: " كان الله ولا شيء قبله), وروي: (ولا شيء غيره), وروي: (ولا شيء معه). والقصة واحدة. ومعلوم أن النبي  إنما قال واحدا من هذه الألفاظ, والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح أنه كان يقول في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء, وأنت الآخر فليس بعدك شيء…)الخ. فقوله في هذا: (أنت الأول فليس قبلك شيء) يناسب قوله: (كان الله ولا شيء قبله).
والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات, فهذا اللفظ ليس في كتاب الله, وهذا الحديث لو كان نصا فيما ذكر فليس هو متواترا, فكم من حديث صحيح, معناه فيه نزاع كثير, فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين, فكيف يدعى فيها إجماع. ويدعي الإجماع على كفر من يخالف ذلك؛ ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بينه في القرآن, وهو أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع. فإذا ادعى المدعي الإجماع على هذا وتكفير من خالف هذا كان قوله متوجها. وليس في خبر الله أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما ينفي وجود مخلوق قبلهما, ولا ينفي أنه خلقهما من مادة كانت قبلهما, كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجن, وإنما خلق الإنسان من مادة وهي الصلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار. فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذي لا يعلم فيه نزاع أن الله لما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء قبل ذلك, فكان العرش موجودا قبل ذلك, وكان الماء موجودا قبل ذلك (6)
هذا هو كلام ابن تيمية بطوله, تعليقا وإنكارا على ما جاء في كلام ابن حزم, من أن الإجماع قد انعقد على أن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه, ثم خلق الأشياء كلها كما شاء.
ثم أطال في بيان ما يقرره طوائف من علماء الكلام, والفلاسفة في هذه المسألة, لينتهي إلى ما يقرره الفلاسفة من أن الأشياء حادثة بالعين والجزئيات ولكنها قديمة بالنوع وسلسلة التوالدات, وأكد ذلك قوله:
" ولكن فرق بين حدوث الشيء المعين, وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء"(7). أي فالأول هو الحادث بعد أن لم يكن, أما سلسلة الحوادث المتوالدة شيئا بعد شيء – على حد تعبيره – فهي قديمة مستمرة.
ومن تأمل الكلام الطويل الذي ساقه في الرد على ابن حزم في نقله الإجماع على أن الله خالق كل شيء, وأنه عز وجل كان وليس معه شيء ثم خلق الأشياء كما أراد, وقع على خلط وتخبط عجيبين في كلامه هذا. ولا تدري ما الذي أقحمه في هذه المخاضة الفلسفية التي يبرأ إلى الله منها السلف الصالح بعصورهم الثلاثة, شكلا مضمونا؛ وهو الذي ما زال يحذرنا من أضاليل الفلاسفة وابتداعاتهم ويوصينا بالوقوف عند نصوص الكتاب والسنة !!!.
في نظر ابن تيمية الذي كفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد يخالفهم فيها, أنه لا يوجد إجماع من السلف وأهل السنة والجماعة على كفر من زعم أن الله وحده ليس خالق كل شيء, ودليله على عدم وجود هذا الإجماع أن القدرية, يعتقدون – على حد قول ابن تيمية – أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله !.
وأقول: بل ما زلنا نعلم بيقين أن إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة مكفر بإجماع المسلمين الذي يعتد بإجماعهم. ومما لا ريب فيه أن إنكار قول الله تعالى:  الله خالق كل شيء  (الرعد:16, والزمر:62) كليا أو جزئيا, إنكار لما هو معروف من الدين بالضرورة.
فلئن كان القدرية أو أي فئة أخرى غيرهم, يعتقدون أن ثمة خالقا سوى الله تعالى أوجد شيئا ما من العدم بقدرة مستقلة غير مستمدة من الله عز وجل, فهو كافر بدون أي خلاف ولا ريب.
غير أني ما سمعت وما رأيت إلى هذا الأيام أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ! وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا, ولم أجد شيء منها مثل هذا النقل عنهم. ثم رأيت العلامة المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري قد سبقني إلى البحث عن هذا النقل الغريب وأصله, فكتب تعليقا عليه: "لم نر من صرح بذلك منهم في كتاب من كتبهم. وإلزام الشيء غير القول به".
بما ذا يفسر قول من يقول: إن الله ليس خالق كل شيء الذي لا يرى ابن تيمية دليلا قاطعا على كفره؟.
لا يعدو هذا القول أن يتضمن أحد تفسيرين:
الأول: أن ثمة شريطا مع الله يخلق بعض ما هو موجود في الكون, فالخلق العام منسوب إليهما معا لا إلى الله وحده.
الثاني: أن بعض ما هو موجود لم تمتد إليه يد الخلق قط, وإنما هو قديم قدم الله تعالى, ومن ثم يقال في التعبير عنه: إن الله ليس خالق كل شيء.
فهل من مسلم لا يعلم بالبداهة أن كلا من هذين التفسيرين موغل في أفظع معاني الكفر أو الشرك. وهل جاءت النصوص القرآنية التي تتناول العقيدة إلا تحذيرا من كلا هذين الوهمين وتكفيرا لمن يعتنق واحدا منهما؟, ودونك فاستعرض ما هو مدون في مجموع فتاوى ابن تيمية تجده يكرر الحكم بتكفير من ينساق وراء أحد هذين الوهمين, في كل مناسبة, وبشكل يناقض هذا الذي يقرر هنا كل التناقض. وسنذكر بعد قليل بعضا من تلك النصوص إن شاء الله.
ثم قال ابن تيمية رحمه الله: " والأعجب من ذلك حكاية – أي حكاية ابن حزم – الإجماع على كفر من نازع في أنه سبحانه لم يزل وحده لا شيء معه, ثم خلق الأشياء كما شاء, ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا ينسب إلى رسول الله  .
أقول: وإن العجب ليس في هذا الذي ينقله ابن حزم عن عامة العلماء المسلمين, مما هو معروف بالدين بالضرورة. وإنما العجب كل العجب أن نرى ابن تيمية الذي يسفه الفلسفة والفلاسفة, ويشد أزره دوما بانتمائه إلى السلف والسير على صراطهم, والبعد عن كل ما ترفعوا عن الخوض فيه, وقد أصابته من الفلاسفة لوثة وأي لوثة, وأصبح يدافع عن رأيهم في القول بقدم النوع الأساسي وحدوث الأعيان الجزئية.
ففي سبيل الدفاع عن رأيهم هذا, يعلن أنه لا إجماع على كفر من نازع في أن الله كان وحده ولا شيء معه ثم خلق الأشياء كما شاء ! أي فلنا أن نقرر بأن المادة الأولى للمكونات كانت قديمة ولم تستحدث, وأنها تشترك مع الله اشتراكا ذاتيا في صفة القدم, لنا أن نقرر هذا ولا حرج !.
بل يزيدنا ابن تيمية رحمه الله تعجبا واستغرابا عندما يقول بأن تكفير القائلين بهذا الرأي لم يأت عليه دليل صريح لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله  .
إذن فما معنى قول الله عز وجل:  الله خالق كل شيء  (الرعد:16, والزمر:62) وقد علمت أن المادة بمعناها النوعي, الذي توالدت منها الأشياء, على حد تصور الفلاسفة, بفريقيهم اليونانيين والإشراقيين, داخلة في عموم كل شيء. ولا شك أن خالقيته بإرادة واختيار, لا بتسبب ولا بفيض أو اضطرار. إذن فكل الأشياء حادثة مهما سبق بعضها بعضا, وليس انتقاء بعض منها دون بعض لإعطائها صفة القدم إلا ترجيحا بين أشياء متساوية دون أي مرجح وهو باطل يرفضه العقل.
وما معنى قول الله عز وجل:  قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق  (العنكبوت:22) وقد علمنا أن بداءة الشيء تعني كونه مسبوقا بالعدم, فلو كان أصل المادة ذا وجود قديم مع وجود الله, إذن لما كانت له بداءة ولما اتصف خلق الله له – إن صح أن يسمى ذلك خلقا – بالبدء كما يقرر أكثر من مرة في محكم كتابه. والخلق في الآية عام يشمل الإنسان من سائر الموجودات والمخلوقات, فلا يوهمنك مبطل من ذوي السمادير الفلسفية بأن الآية تعني الإنسان وتلفت النظر إلى كيفية خلق الله له من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار. فإن لفت النظر إلى خصوص نشأة الإنسان لا يحتاج إلى الأمر بالسير في الأرض وتأمل قصة الكائنات عموما.
وما معنى اسم الله (الأول) في قوله عز وجل:  هو الأول والآخر والظاهر والباطن … (الحديد:3) وهل منا من لا يعلم أن أول اسم تفضيل أصله أوءل على وزن أفعل, وأنه على تقدير: أول من كذا أي أسبق في الوجود منه؟. فما هو هذا (الكذا) الذي يدل على اسم الله (الأول)؟ وهل منا من يجهل أن التقدير: أول من كل شيء, أي أسبق في الوجود من كل شيء؟ وهل من مسلم يجرؤ أن يقول: لا بل التقدير: أول من بعض الأشياء أي باستثناء أصل الأشياء ونوعها الأول, فهي قديمة كقدمه وهي الأخرى جديرة أن تكتسب الاشتراك مع اسمه (الأول) .
ولا تصغين إلى من جاء يستدل بقياس الأشياء في المنطق اليوناني, قائلا: إن اسم الله  الأول  في حكم القضية المهملة, والقضية المهملة في حكم القضية الجزئية, فهي تصدق بأن يكون الله عز وجل أسبق في الوجود من الكثير من مخلوقاته, ولا يشترط أن يكون أسبق في الوجود من الأشياء كلها.
نقول : لا تصغين إلى من يناقشك بهذا الميزان, فإنا نرى بحق ما يراه ابن تيمية رحمه الله, من أن قياس الأشكال ليس ميزانا صائبا بل ما أكثر ما داخله الخلف وظهر فيه الخطأ, وجاءت من ورائه النتائج الباطلة, لا سيما مسألة القضية المهملة, وهل هي منتجة أم لا. ولو شئنا لأطلنا القول فيها. ولكنا في هذا الكتاب لسنا بصدد الاشتغال بشيء من ذلك.
ولكن أليس عجيبا أننا هنا نناقش هذا الوهم الذي علق بذهن ابن تيمية, بالمنهج ذاته الذي يعلمنا إياه ابن تيمية, في الوقت الذي يتخذ فيه ابن تيمية موقفه مع الفلاسفة مدافعا عن أوهامهم متبنيا لواحدة من أخطر ضلالاتهم.
ولا يقف العجب بنا عند تجاهل ابن تيمية رحمه الله لهذه النصوص البينة في كتاب الله عز وجل, بل الأغرب من ذلك أنه يبذل جهدا شاقا متكلفا لينتقي من الروايات الثلاث الصحيحة التي وردت عن النبي  في هذا الموضوع, ما هو أقرب إلىالتناسب مع رأيه هذا, فيرجحها على الروايتين الأخريين ويشطب عليهما بالوهم والبطلان, دون أي مسوغ لهذا الترجيح. فقد ورد في البخاري في كتاب (بدء الخلق) بلفظ: "كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء(8) " وورد في كتاب (التوحيد) بلفظ: "كان الله ولم يكن شيء قبله". ولما كانت الروايتان الأوليان أصرح في الرد على الفلاسفة الذين أثبتوا حوادث لا أول لها, أي أثبتوا ما يسمونه القدم بالنوع, فقد اختار ابن تيمية أن يشطب عليهما, ويرجع عليهما رواية "..ولم يكن قبله شيء". مع أن ابن تيمية رحمه الله يعلم ما هو معلوم لدى جميع علماء أصول الفقه, من أن الترجيح إنما يلجأ إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع, فأما إن كان الجمع بين الروايات ممكنا بل لا تعارض بينها فيجب المصير إليه ويمنع من الإلغاء والترجيح. والروايات الثلاث هنا منسجمة مع بعضها ولا تعارض بينها. فقد كان الله وليس معه شيء وليس غيره شيء وليس قبله شيء. فما المسوغ إذن لترجيح واحدة منها واعتمادها, وإلغاء الروايتين الأخريين؟, وهذه من القواعد الأصولية التي لا خلاف فيها والتي لا تخفى على أحد فضلا عن ابن تيمية رحمه الله.
وقد استشنع ابن حجر رحمه الله هذا التصرف الذي لا مسوغ له من ابن تيمية مع أنه من المعتدلين في تقويم أفكاره وبين فئتي المتعصبين له والمتعصبين ضده. فقد قال في فتح الباري:
" تقدم في بدء الخلق بلفظ: "ولم يكن شيء غيره", وفي رواية أبي معاوية: "كان الله قبل كل شيء", وهو بمعنى كان ولا شيء معه, وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب, وهي من مستشنع المسائل المنسوبة إلى ابن تيمية. ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها, مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس. والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق(9) .
وقد علمت أن الدافع الوحيد الذي حمله على اختيار رواية "ولا شيء قبله" التي لا تخالف الروايات الأخرى مخالفا القاعدة المتفق عليها في تفسير النصوص, هو أن لا يجد أمامه ما يمنعه من القول باستمرار حوادث متوالدة من بعضها إلى ما لا نهاية كما يقول الفلاسفة وأن يصح له التفريق في المنع بين "حدوث الشيء المعين وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء" على حد تعبيره. أي فالأول هو الذي يمنع في حقد القدم, أما الثاني فقديم مع الله عز وجل.
ثم إن الأغرب من هذا وذاك أن يدعي رحمه الله أنه لا إجماع على كفر من يقول بقدم المادة نوعا إذا علم أنها حادثة من حيث الأعيان الجزئية.
كل تلك النصوص القرآنية, وهذا البيان النبوي الصحيح, لا يجعل المسألة من ضروريات العقيدة الإسلامية, ولا يستتبع إجماعا من أئمة المسلمين وعلمائهم على كفر من اعتقد بقدم المادة أو اعتقد بأصلها النوعي إذن فما هي الأسباب الثلاثة التي أجمع أئمة المسلمين على كفر الفلاسفة بها؟.
ومع ذلك فلعل أنصع رد على كلام ابن تيمية هذا كلام ابن تيمية نفسه فقد أثبت كفر من قال بقدم العالم (قدما نوعيا أو عينيا) ونقل الإجماع على ذلك في أكثر من موضع ومناسبة في رسائله وكتاباته.
يقول في رسالته (الرد على المناطقة) بعد أن برهن على بطلان القول بوجود حوادث لا أول لها: فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن, ليس مع الله شيء قديم بقدمه(10) .
ويقول في إحدى رسائله حول معنى الاستواء وبعض آيات الصفات: ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تحبون بقدم السموات والأرض ودوامها, فهذا كفر, وهو قول بقدم العالم(11).
فهل قال ابن حزم مما شنع عليه بسببه ابن تيمية, غير هذا الكلام ذاته ؟, وهل الإجماع الذي نقله ابن حزم عن المسلمين, غير الإطباق الذي نقله ابن تيمية عن عامة الرسل والأنبياء؟.
ونحن لا نحب أن نطبق مقتضى كلام ابن تيمية هنا على انتصاره هو في مكان آخر لمذهب الفلاسفة بالقول بالقدم النوعي, فنكفره بمقتضى حكمه هو. فإن المظنون بابن تيمية غير ذلك. ولعل خير دفاع عنه في تحليل أسباب هذا التناقض العجيب الذي تلبس به أن نتذكر طبيعته النقدية لمعظم الأئمة والعلماء, حتى لكأنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في ذلك.إذ لما كان في الانتصار لمذهب الفلاسفة في هذه المسألة, بإبعاد تهمة الكفر عنهم بسببها على أقل تقدير, ما يظهر ابن حزم في الإجماع الذي نقله, في مظهر المخطئ المتسرع الذي لا يتثبت في الأحكام, فلقد كان إذن للجنوح إلى مذهب الفلاسفة وتهوين القول بالقدم النوعي للمادة ما يبرره. ولعل من أقوى المبررات في نظره وشعوره أن يصل إلى تخطئة ابن حزم وبيان جهله.
إن هذا التحليل لهذا الاضطراب المتناقض في موقف ابن تيمية في هذه المسألة هو –بنظري- أقرب ما ينسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلامية التي لا نحب أن نرتاب فيها. فإن كان ثمة تحليل آخر غير هذا أولى بالدفاع عن عقيدة ابن تيمية ومكانته عندنا, فليبصرنا به من قد سبق إلى اكتشافه والعثور عليه وله في ذلك الفضل والشكر.
المسألة الثانية: مخالفته لعامة أهل السنة والجماعة وجنوحه إلى رأي الفلاسفة في أن الأشياء تكمن فيها أسباب ذاتية, ثم إن الفلاسفة القدماء أو أكثرهم يقررون أنها موجودة في الأشياء بطبعها, أما الفلاسفة الإسلاميون كالفارابي وابن رشد فيقررون أنها بقوة أودعها الله فيها. والقاسم المشترك بين هذين الفريقين أن في الأشياء فاعلية كامنة في ذاتها, تسمى العلة أو السبب. وهذا التصور يتناقض مع عقيدة جمهور أهل السنة والجماعة وهي أن الله يخلق الآثار والنتائج التي نشاهدها عند اقتران وتلاقي ما نسميه أسبابا ومسببات. فليست تسمية الأسباب أسبابا إلا تعبيرا عن الشعور الذي تتركه العادة والإلف في النفس من كثرة الاقترانات بين ما نظنه أسبابا ومسببات.
ولكن ابن تيمية يرد هذه العقيدة بعنف ويصر على أن الأمر في حقيقته كما يقول الفلاسفة الإسلاميون, من أن هنالك أسبابا كامنة في الأشياء تتمثل في القوى التي أودعها الله فيها, فكانت مؤثرا وعاملا ذاتيا في إيجاد النتائج والمسببات. فهو يقول:
" ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها, فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع, وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد(12) ".
ويقول في رسالته (الرد على المناطقة): فنعلم أن في النار قوة تقتضي التسخين, وفي الماء قوة تقتضي التبريد, وكذلك في العين قوة تقتضي الإبصار, وفي اللسان قوة تقتضي الذوق(13) ".
ويقول: " ومن الناس من ينكر القوى والطبائع كما هو قول أبي الحسن(14) ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وهؤلاء المنكرون للقوى والطبائع ينكرون الأسباب أيضا, ويقولون إن الله يفعل عندها لا بها فيقولون إن الله لا يشبع بالخبز ولا يروي بالماء ولا ينبت الزرع بالماء بل يفعل عنده لا به. وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف !! (هكذا) مع مخالفة صريح الفعل…" إلى أن قال: " والناس جميعا يعلمون بحسهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض كما يعلمون أن الشبع يحصل بالأكل لا بالعد ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان كما قال:  وجعلنا من الماء كل شيء حي  (الأنبياء: 30) وأن الحيوان يروى بشرب الماء لا بالمشي ومثل ذلك كثير(15) ".
وهكذا فإن ابن تيمية يثبت بكلامه هذا العلة الأرسطاطاليسية صراحة. ويقرر نظرية (الغريزة) بمعناها الفلسفي الذي يعطي المادة فاعلية ذاتية مستقلة. وبتعبير أدق: إن ابن تيمية يثبت من خلال كلامه هذا, في السبب (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب. وبهذا يخرج ابن تيمية هنا عن روح المذهب الإسلامي, ويعتنق أكبر الأفكار التي يقوم عليها المنطق الأرسططاليسي, كما يقرر الدكتور علي سامي النشار(16).
والعجب كل العجب أن ابن تيمية يصر على التأكيد بأن هذا الفكر الفلسفي الذي يقوم عليه المنطق الأرسططاليسي هو الذي يقرره القرآن. فمن خالفه فقد خالف ما جاء به القرآن.
والدليل القرآني يعينه, هو ما يفهمه من باء السببية أو لامها في مثل قوله عز وجل:  فأنزلنا به الماء  (الأعراف:57),  فأخرجنا به من كل الثمرات  (الأعراف 57), فأنبتنا به حدائق ذات بهجة  (النمل:60),  ولتعلموا عدد السنين والحساب  (الإسراء: 12),  ولتبلغوا عليها حاجة  (غافر: 8)…الخ.
ونحن نقول: إن كان ابن تيمية يرى أن الباء في هذه الآيات وأمثالها تدل على السببية الحقيقة, فذلك كفر وشرك بالله عز وجل باتفاق الملة وبدلالة النصوص القرآنية القاطعة. إذ المعنى عندئذ أن الله توسط لإنبات النبات بالماء, وتوسط لإنزال المطر بالسحاب. وهذا يعني أن الله عاجز يقوى بغيره, وأنه ليس خالقا لكل شيء.
وإن كان يفهم من هذه الباء ما يفهمه منها عامة أهل السنة والجماعة من دلالتها على السببية الجعلية أي أن الله تعالى قرن بين السحاب والمطر بشكل مستمر بحيث يتجلى للناظر أن الأول سبب والثاني مسبب, وأن العلاقة بينهما طبيعية مع أن الأمر قائم على مجرد الربط الإلهي بين السابق واللاحق, فهذا هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة, وهو الذي يتفق مع نصوص الكتاب والسنة.
ثم إنا نقول: إذا كان الاتفاق جاريا على أن الباء لا تدل على السببية الحقيقة التي نستعملها في الدلالة عليها في كلامنا المعتاد, فقد بطل الاحتجاج بالباء على أي شيء وراء ذلك, إذ ليس من دليل على ما تدل عليه الباء, وراء المعنى الذي وضعت له حقيقة وهي السببية وهو معنى غير مراد بالاتفاق كما قد أثبتنا وعلمنا. فأصبحت الباء بذلك مهيأة لأي معنى مجازي يناط بها.
ومدار اختيار هذا المعنى إنما هو على ما يتفق مع صفاته وأسمائه وما ينسجم مع الدلائل القرآنية الثابتة.
فهل المعنى الذي يراه ابن تيمية رحمه الله (وهو معنى اقتبسه من الفلاسفة وحذا حذوهم فيه) يتفق مع ما هو ثابت ومعلوم من أسماء الله وصفاته وعامة النصوص القرآنية ذات الدلالة البينة؟.
أي هل القول بأن الله أودع في الأشياء طبائع وقوى مؤثرة, يتفق مع جملة ما هو معلوم من صفات الألوهية, والنصوص القرآنية الثابتة.
إن من أسماء الله عز وجل (القيوم) ومعناه القائم بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار. وقد فصل هذا المعنى في مثل قول الله عز وجل:  إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا..  (فاطر:41) وقوله عز وجل:  ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره  ( الروم:25) وقد علمنا أن إمساك الله السموات والأرض هو رعايته لها وهدايته إياها للقيام بما توجه إليها من الأوامر التكوينية. وكل ذلك مستمر دائم يتجدد لحظة فلحظة, إن صح التعبير باللحظة من حيث هي أصغر وحدة زمنية نعرفها. ومن المعلوم أن فعل (يمسك) و(تقوم) يدل على التجدد والحدوث, فهو نص في هذا المعنى الذي نقول.
فهل يتفق هذا البيان الإلهي, لاسم الله (القيوم) مع ما يقرره الفلاسفة ويؤيده ابن تيمية رحمه الله, من أن الله أودع في كل شيء طبيعة وقوة, فهو بها يحقق آثاره وينتج معلولاته؟.
إذا تصورنا الأمر على هذا النحو, فقد بطلت صفة القيومية في ذات الله عز وجل وبطل معنى قوله:  يمسك السموات والأرض أن تزولا  إذ إن الأشياء بعد أو أودعت فيها قواها المزعومة, أصبحت تؤدي معماتها استقلالا, ودونما حاجة إلى أي عون مستمر, فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم, حيث لا يحتاج إلى أكثر من أن يملا بالمعلومات التوجيهية, وإذا هو بعد ذلك يؤدي عمله دون أي معونة مستمرة أو حتى رقابة من صاحب هذا الجهاز أو صانعه !.
إذن فصفات الله عز وجل ونصوص القرآن الساطعة الدلالة, تؤيد أهل السنة والجماعة الذين عبر ابن تيمية عنهم بأصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم, وهم ملتزمون أدق الالتزام كلام الله ورسوله, لا مخالفون أو معرضون عن شيء منها.
صحيح أن البيان الإلهي يستعمل حروف السببية والتعليل, وكتاب الله يفيض بها. ولكن كتاب الله مليء بالنصوص الصريحة المحذرة من أن تفهم معاني هذه الحروف على حقيقتها في حق الله عز وجل. فهو عز وجل يقول مثلا:  وعليها وعلى لفلك تحملون  (المؤمنون:22) ولكنه سرعان ما يواجهك بالآية الثانية قبل أن تتوهم أن الحامل هو الفلك, أو أن قوة أودعت في الفلك فطف بها على سطح الماء, فيقول:  وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون  (يس:41) ويقول:  وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر  (القمر:13و14) ويقول:  بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم  (هود: 41) إذن فالحامل الحقيقي للذين على ظهر السفينة والمسير الحقيقي لها والمانع لها من الغرق بمن فيها هو الله عز وجل. فأين بقيت سببيتها المزعومة القوة المودعة فيها أمام هذا البيان الإلهي الذي لا يرتاب فيه عربي؟.
ولما قال ابن سيدنا نوح عليه السلام لأبيه, معتذرا عن الركوب معه في السفينة: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء  (هود:43) أجابه نوح بإلهام ووحي من رب العزة: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم  (هود:43) فلقد تصور ابن نوح عليه السلام أن المسألة طغيان مياه, وأنها إنما تغرق بالقوة الطبيعية المودعة فيها, فما أيسر أن يستجير منها بالقوة الطبيعية الأخرى فيلتجأ إلى أعالي الجبال, فجاء الرد الإلهي يقول: إنها ليست قوة مودعة في الماء ولكنه سلطان الله وأمره, وما الماء إلا جند منفذ لأمر الله لحظة فلحظة.
وهكذا فإن ما تراه في القرآن من أحرف السببية التي تربط ما بين شيئين ليس أكثر من تعبير عن الأمور التي رتبها الله في الظهور بعضها على بعض, حملا للناس أن يتفاعلوا وتعاملوا مع المكون والحياة على أساس هذا النظام والترتيب, وتنسيقا بين أحكام الشرعية ومسؤولياتها التي يجب أن يتحملها الناس, وبين هذا الترتيب الاقتراني الذي أقامه بين أشياء هذا الكون, على النحو الذي شاءه الله وقضاه, وإلا فحدثني أين تجد رائحة للسببية التي يتحدث عنها ابن تيمية وأشياعه من الفلاسفة, في قوله تعالى:  وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا  (مريم:25)؟ نعم, لقد رتب الله تساقط الرطب على هز مريم للجذع ولكن فهل نستنبط من ذلك أن الله أودع في يدها قوة طبيعية أثرت في هز ذلك الجذع الصلد وتساقط الرطب من أعاليه ؟.
أما إن أردت أن تقول: إن هناك فرقا بين اليد التي تهز جذع نخلة سحوق, واليد التي تجتث لدنا من الأرض فالأولى لم تودع فيها قوة مؤثرة وإنما كان أمرا خارقا, أما الثانية فقد أودعت فيها قوة مؤثرة ولا ريب, فنعوذ بالله من ضلال بل من شرك يصل إلى هذه الدرجة من الصراحة ولا تفصيل ! على أنه قول باطل في ميزان الواقع المادي ذاته, فإن كلتا اليدين جاءت بالنتيجة المترتبة على الهز أو القلع هزت مريم الجذع الصلب فتساقط الرطب كما شدت اليد الأخرى النبات الرطب فتقطع أو انقعر فلماذا لا تقول: إن الله أودع في يد مريم قوة طبيعية سببت في اهتزاز الجذع كما تقول عن اليد الأخرى في ممارستها لعمل يومي متكرر يراه سائر الناس؟ ولن تجد من فرق بينهما مهما تأملت, إلا فارقا واحدا لا ثاني له, هو أن الأمر الثاني غدا من كثرة تكرره معروفا ومألوفا لسائر الناس, أما الأول فغريب وخارق لمألوف الناس وعاداتهم. فمن قال عن صورة الاقترانات السببية المألوفة المتكررة أمام الأبصار إن هنالك قوة طبيعية مودعة في هذه الأشياء, فاعتمادا على مجرد هذا الاعتياد المألوف يقول ذلك وهذا وهم نفسي ظاهر لا تخالطه شائبة برهان علمي قط.
ومع ذلك فإنا نفرض أن ابن تيمية رحمه الله خدع من كلام الفلاسفة في هذه المسألة بما ظنه دليلا علميا على صحة مذهبهم فيها, وذلك يقطع النظر عن النصوص القرآنية ودلائلها فانجرف - من جراء ذلك – في تيارهم وتبنى رأيهم. وإذن فقد يكون من الخير أن نصغي إلى ما يقرره العلم في هذه المسألة في كلمة موجزة جامعة:
إن القول بأن في النار مثلا قوة طبيعية أودعت فيها تحرق ما يلامسها من المواد القابلة للاحتراق, يعني أن لهذه القوة وجودا ذاتيا كامنا في النار, وعندئذ فلا بد أن يكون لها ماهية متميزة مستقلة. فكيف اطلع أصحاب القول على هذه الماهية واكتشفوا ذاتيتها الكامنة المستقلة في جوهر النار ؟.
إن الدليل الوحيد الذي يعتمد عليه أصحاب هذا التصور, هو أنهم كانوا ولا يزالون يرون أنه كلما لامس الناس جرم قابل للاحتراق احترق, فهي ظاهرة اقترانية متكررة مطردة, لم يقع فيها أي خلف قط. فاستمرار الاقتران المطرد كون عندهم قناعة تامة بأن من ورائه رابطة تلازمية. ولا تأتي هذه الرابطة إلا من وراء قوة مودعة في النار تحقق هذه الوظيفة التي هي شأنها وتنسج هذا التلازم المستمر. وما يقال عن النار والإحراق, يقال عن سائر الأشياء والأمثلة الأخرى.
هذا هو كل ما يعتمد عليه الفلاسفة وأتباعهم من الأدلة على التصور الذي رسخ في عقولهم وأفكارهم.
فأين يكمن الخطأ والوهم من هذا الكلام الذي قد ينطلي ظاهره على بعض العقول؟.
يكمن الوهم والخطأ في تصورهم أن استمرار الاقتران بين النار والاحتراق يدل على رباطة تلازمية أي حتمية بينهما ها هنا يكمن الخطأ الفادح !.
إن مجرد الاقتران المستمر بين أمرين اثنين لا يمكن أن يكون وحده دليلا علميا على رباطة لزومية قائمة بينهما. حتى ولو استمر هذا الاقتران دهرا كاملا فالاستدلال به على وجود رابطة لزومية ومن ثم على وجود قوة خفية تحقق هذا الربط, استدلال باطل لأن دليل المقارنة المستمرة أعم بكثير من المدعى المطلوب.
وأنا أعلم أن أصحاب النظرة السطحية يعجبون لهذا الكلام وقد يقول أحدهم: وهل هناك من دليل على حتمية هذه الرابطة عن طريق القوة المودعة أقوى وأوضح من استمرار هذا الاقتران دون أي شذوذ أو تخلف فنحن ما زلنا نرى أن النار تحرق كل جسم قابل للاحتراق وأن الماء يتحول إلى بخار عقب تأثره بالغليان وأن الأجسام تسقط عموديا إلى الأدنى تحت تأثير القوة الجاذبة وأنها تنطلق أفقيا تحت تأثير القوة النابذة وأن الأمطار تهطل من الغيوم على أعقاب درجة معينة من الرطوبة تشيع فيها, ولقد تبين لنا أن العلاقة القائمة بين كل شيئين من هذه الأشياء المترابطة علاقة مستمرة ثابتة. فلماذا لا تكون هذه العلاقة الثابتة الدائمة دليلا على أن هذه الأشياء التي ما زالت تحقق نتائجها فيها قوة طبيعية يتمثل فيها السبب المحقق لتلك النتائج ؟.
والجواب عن هذا التساؤل يكمن في التذكير بالقاعدة العلمية القائلة (العلم يتبع المعلوم) ومعناها أن ما يستقر في ذهن الباحث المتعلم لكي يسمى بحق علما يجب أن يكون صورة صادقة أمينة للواقع الذي تعلق به العلم. فكل قرار يتخذه الذهن لا بد أن يكون بإشارة بل ببيان واضح من الواقع نفسه. فالمعلم أولا وهو الواقع المشاهد الذي يسمونه (الماصدق) والعلم به ثانيا وهو التصور أو التصديق الذهني الذي يسمونه (مفهوما). ولو جاز قلب هذه القاعدة واعتبار الشيء المعلوم هو التابع للعلم إذن لما وجد أي ضابط أو حاجز يفرق بين العلم والجهل إذ ما أيسر عندئذ أن يتصور الباحث في ذهنه ما يهوى ويريد وإذا الواقع تابع له مصدق لما يتصور أو يقول !.
إذا أدركنا هذه القاعدة نقول: إن المعلوم في موضوعنا الذي نحن بصدده هو العلاقات الاقترانية التي نراها بين سابق ولاحق من أشياء المادة والطبيعية ولكي تكون مفاهيمنا وتصوراتنا داخلة في معنى العلم حقيقة يجب أن تقف مفاهيمنا هذه عند حدود الملاحظة التي أخذت بأمانة من الواقع والواقع في موضوعنا هذا ليس أكثر من التعاقب أو الاقتران الثابت المستمر بين شيئين معينين. فهذا هو العلم الذي اسمه العلم حقيقة.
ومهما استمرت المراقبة منها واستمر الثبات من الطبيعة على هذا الاقتران فلن يأتي ذلك بجديد على علمنا الذي استفدناه غير التأكيد. والتأكيد وحده لا يولد أي معنى جديد.
فإن قال أحد هؤلاء الفلاسفة: إننا إذ نستنبط من استمرار الاقتران والتعاقب بين الشيئين وجود قوة طبيعية كامنة في الشيء الأول تسبب حدوث الشيء الثاني, فإنا لا نخرج عن قاعدة العلم يتبع المعلوم فإن هذا استنباط عقلي من الواقع المشاهد ألا وهو طول الاقتران والتعاقب المشاهدين بين الأسباب والمسببات.
قلنا في الجواب: صحيح أن استخراج العقل للنتائج الخفية من الوقائع المشاهدة بالمنهج العلمي السليم, جزء لا يتجزأ من علمه الصحيح. وهو في عمله هذا خاضع لقاعدة العلم يتبع المعلوم. ولكن هل يعتمد هذا الاستخراج هنا على منهج علمي سليم يقرر النتيجة ودخولها ضمن مقولات العلم؟.
الواقع أن هذا الاستخراج لا يعتمد إلى على وهم مجرد. ذلك لأن الطبيعة المشاهدة لا تعطيك من واقعها أكثر من هذا الاقتران. وهو بحد ذاته ليس أكثر من اقتران مهما استمر ودام. ثم أن التفتيش الذهني عن عوامل هذا الاقتران يضعنا أمام احتمالات كثيرة وليس افتراض وجود قوة طبيعية فيما نسميه السبب إلا واحدا من هذه الاحتمالات. فانتقاء الذهن لهذا الافتراض دون غيره ودون دليل يؤيده أسبقية باطلة وحكم فضولي من الذهن ومخالفة صريحة لقاعدة: العلم يتبع المعلوم.
إن البرهان يملك أن يقضي بأن استمرار العلاقة الدائمة بين النار والاحتراق, عنوان على القوة الفاعلة للإحراق والكامنة في النار, هو أحد دليلين لا ثالث لهما:
الدليل الأول: وصول الذهن إلى الكشف عن ذاتية هذه القوة وماهياتها الكامنة ف يالنار. وهذا ما لم يصل إليه باحث أو عالم قط إلى هذا اليوم.
الدليل الثاني: أن يخبرنا خالق النار أنه قد أودع فيها قوة ذاتية فهي تفعل فعلها هذا بتأثير مباشر من هذه القوة ذاتها. وهذا ما لم يقله لنا خالق النار قط. بل الذي قاله لنا مرارا وتكرارا – كما سبق أن أوضحنا – عكس ذلك تماما. فإن استمرار قيوميته على الأشياء كلها برهان قاطع على بطلان ذلك الوهم وكلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) الواردة في شتى الأحاديث النبوية الثابتة ليست إلا نصا قاطعا على نقيض هذا الوهم.
فإذا انتفى هذان الدليلان لم يبق أمامنا إلا مجرد الاقتران المستمر. وقد علمنا أن الاقتران المستمر أعم من أن يكون برهانا علميا على وجود قوة مودعة في الأشياء بها تسبب وتؤثر.
ومرد هذا الوهم كله إلى أن أحدنا عندما يصغي إلى ما توحي إليه به نفسه, وإلى ما انطبعت به من المشاعر والأوهام, يجد نفسه متأثرا بطول استمرار العلاقة بين شيئين من أشياء المادة إلى درجة عدم وقوع أي شذوذ فيها. بحيث يخيل إلينا –من طول هذه العلاقة – أن انفصالها قد بات مستحيلا وأن قوة كامنة في المادة تبعث هذا التأثير ولا ريب. أجل, لا جرم أن طول إلف العين والفكر لهذا الاقتران يخضع النفس الواهمة لقاعدة رد الفعل الشرطي التي يتحدث عنها العلماء قديما وحديثا.
وإني لأسأل: ما الفرق الذي يمكن أن تراه بين شعور الكلاب (التي أجرى عليها بافلوف تجاربه) بحتمية العلاقة بين الجرس وحضور الطعام, تحت تأثير وجود قوة مودعة في الجرس وذلك بسبب طول ما ألفته من الاقتران المستمر بينهما وبين شعور الإنسان بحتمية العلاقة بين النار والاحتراق مثلا تحت تأثير القوة الطبيعية المودعة (في تصوره) في داخل النار من جراء طول ما ألفه هو الآخر من الاقتران والتعاقب المستمر بينهما؟.
كما أن توهم وجود القوة المودعة في الجرس لتحضير الطعام حكم فضولي شارد عن حدود الواقع من تلك الكلاب كذلك توهم وجود هذه القوة المودعة من الإنسان فيما يتعلق بأمور الطبيعية حكم فضولي شارد عن حدود الواقع.
ولو كان للكلاب لسان مبين تجادل به عن بينة وحجاج لاحتجت بالأوهام ذاتها التي يحتج بها الفلاسفة القائلون بوجود قوة طبيعية مودعة في الأشياء إليها مرد ما نجده من تأثير وتسبب في الأشياء وإليها مرد العلاقة أو الاقتران المستمر في عالم الأسباب والمسببات. ولن تجد من فرق بين المثالين اللهم إلا ضخامة المثال هنا وصغره هناك(17).
فهذا هو منطق العلم في هذه المسألة. وذكرنا من قبله ما تقضي به صفات الربوبية والألوهية. وما تدل عليه قواطع النصوص القرآنية. فثبت أن الله هو الفعال لكل شيء,وأنه ما من حول أو قوة تظهر على صفحة من صفحات الكون أو أي من مشاهده إلا وهي قوة الله عز وجل وحوله وتقديره لا ينقطع ذلك عن شيء من المكونات لحظة واحدة. وهذا هو معنى قول أهل السنة والجماعة إن النتائج والمسببات تحدث عند مقارنتها لما نسميه أسبابا أو عللا كونية لا بها أي لا بتأثير أو فاعليه منها. ثم اختصروا هذا التعبير فقالوا: تحدث عندها لا بها.
على أن ابن تيمية رحمه الله تناقض كلامه واضطرب في هذه المسألة الثانية أيضا. فهو على الرغم من جنوحه إلى مذهب الفلاسفة في القول بالقوة الطبيعية المودعة في الأشياء وتأكيده ذلك في عدة مواضع ومناسبات من كتبه ورسائله يعود فيقول في بعض رسائله الموجهة جوابا عن سؤال يتعلق بمعنى قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
الثاني: أن كل ما خلا الله فهو معدوم بنفسه ليس له من نفسه وجود ولا حركة ولا عمل ولا نفع لغيره منه. إذ ذلك جميعه خلق الله وإبداعه وبرءه وتصويره.فكل الأشياء إذا تخلى عنها الله فهي باطل يكفي في عدمها وبطلانها نفس تخليه عنها وأن لا يقيمها هو بخلقه ورزقه وإذا كانت باطلة في أنفسها - والحق إنما هو لله وبالله ومن الله – صدق قول القائل: " ألا كل شيء خلا الله باطل ".
ثم أطال في بيان هذا المعنى وجاء بكلام لو نقل عن أمثال ابن عربي لقال عنه كثير من الناس إنه كفر وترديد لأوهام وحدة الوجود(18).
وقال في مكان آخر حول الموضوع ذاته:
" وأصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد (ألا كل شيء خلا الله باطل) أي ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم وما هو فقير إلى الحي القيوم. فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى رأيته موجودا مكسوا حلل الفضل والإحسان(19) ".
فقارن هذا الكلام الرائع المغموس بمعاني التوحيد بقوله في مكان آخر ومرددا في أكثر من مناسبة: إن في النار قوة تقتضي التسخين وفي الماء قوة تقتضي التبريد وأن الذين يقولون إن الله يفعل عندها لا بها مخطئون مخالفون للعقل وللقرآن تجد التناقض العجيب !.
إن من الوضوح بمكان أن النار إذا أودعت فيها قوة الإحراق والتسخين فلا بد أن تمارس وظيفتها بهذه القوة مهما تخلى الله عنها ذلك لأنها مستغنية عنه عندئذ بالقوة المودعة فيها.
وإن من الوضوح بمكان أنه إذا صح قولنا: " أن كل الأشياء إذا تخلى الله عنها فهي باطلة", فلا بد أن تكون هذه الأشياء فارغة عن كل ما يسمى قوة أو تأثيرا وإنما تتصل القوة أو التأثير بها من خلال العناية الإلهية التي لا تنفك عنها لحظة واحدة, كما يقول ابن تيمية: فالفاعلية التي تبدو فيها ليست إلا كالأشعة التي تمتد من الشمس إلى جدار أسود. إن حجبت الشمس عنه لحظة واحدة عاد قتاما مظلما. أفيقول القائل : إن الجدار قد أودعت فيه أمواج ضوئية فهي تعكس منه على ظاهرها مهما حجبت الشمس عنه ؟.
فالكلام الأول لابن تيمية ! وهو مثبت في أكثر من موضع في كتبه ورسائله.
والكلام الثاني أيضا لابن تيمية ! وقد تكرر هو الآخر في أكثر من موضع في مؤلفاته.
وقد رأيت كيف أن كلا منهما يناقض الآخر مناقضة حادة فما تفسيره ذلك وسببه؟.
لا أدري لذلك أي تفسر ولا سبب ولكني أعلم أنه ما منا إلا من رج ورد عليه إلا المعصوم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم. ولعل الكلام الذي قاله في شرح قول لبيد وهو القرار الذي انتهى إليه واستقر عليه وما أشبه أن يكون حديثه عن القوى المودعة اضطرابا ناله من تخبطات الفلاسفة ثم تجاوزه وأدبر عنه مغفورا له ومأجورا إن شاء الله.
وبعد, فلم أكن أهدف من هذه الوقفة مع ابن تيمية رحمه الله, إلى تتبع أخطاء له. فما عقدت فصول هذا الكتاب لشيء من هذا الغرض. ولكني أردت أن أوضح أن ابن تيمية – وهو نموذج من قادة يسمون اليوم بالسلفية – لم يتبن رأيه في هاتين المسألتين ولهما نظائر اتباعا منه للسلف من حيث إنهم سلف, ولم يدافع عن رأيه فيهما بأن السلف أو بعضا منهم كان على هذه العقيدة. بل إننا لنعلم جميعا أنه لا يوجد واحد من السلف الصالح على امتداد عصوره الثلاثة قال: إن العالم قديم بالنوع حادث بالنوع (وهذا هو تعبير ابن تيمية) أو قال: إن الأشياء قد أودعت فيها قوى فهي تؤثر بها في المسببات.
ولكنه دافع عن رأيه في كل من هاتين المسألتين اعتمادا على المنهج الذي عرفنا به في الباب الأول من هذا الكتاب, ثم أخذنا نستعرض له أكبر قدر ممكن من التطبيقات العملية في هذا الباب الثاني. هذا بقطع النظر عن كونه أصاب في استدلاله على رأيه في هاتين المسألتين أم أخطأ. فلقد فصلنا القول في ذلك تفصيلا كافيا فيما أحسب.
إذن, فليس في واقع السلف من حيث إنهم سلف ما يعد مصدرا من مصادر الشرع أو حجة في نطاق الاستدلال والبحث. وإنما المصدر كتاب الله وسنة رسوله وإجماع هذه الأمة. وإنما السبيل إلى فهم الكتاب والسنة والخضوع لسلطانهما هو اتباع القواعد العربية المحكمة في تفسير النصوص ويدخل القياس في جملة هذه القواعد.
فالعمل بكتاب الله وسنة رسوله  على هدي من هذه القواعد المحكمة هو المقياس والحجة على كل طبقات المسلمين وفئاتهم من سلف وخلف. وليس واقع المسلمين أو طبقة ما منهم هو الحجة على كتاب الله وسنة رسوله  .
وها قد رأينا أن ابن تيمية لم يبال أن يخالف السلف كلهم ممثلين في أصحاب مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة كما قال هو بذاته في النص الذي نقلناه عنه اتباعا لما يقضي به (في نظره واجتهاده) منهج تفسير النصوص. وعلى الرغم من شذوذ المذهب الذي ذهب إليه ويقيننا بأنه تنكب عن الجادة في فهمه لهذا المنهج وتطبيقه على هاتين المسألتين فإننا لا نستجيز لأنفسنا أن نخرجه بذلك من دائرة الجماعة الإسلامية الناجية والتي نعبر عنها بأهل السنة والجماعة بل نلتمس له العذر ونقول إنه أصاب في الهدف الذي قصده ولكنه أخطأ الطريق إليه.
ولكن انظر بالمقابل إلى من يصرفون النظر عن هذا المنهج وتحكيمه ويحكمون بدلا من ذلك ما يسمونه واقع السلف (وما تدري كيف يمكن تفسير واقع السلف بعيدا عن منهج البحث عن الحقيقة وقواعد تفسير النصوص) ثم يتبنون نتيجة لهذا التحكيم مذهبا واحدا ضيقا يحكمون به على أنفسهم وعلى الناس عامة. فهو الفصيل الوحيد في نظرهم بين الحق والباطل دون أي تفريق بين المسائل التي تدخل في قائمة الحق الذي لا خلاف فيه أو الباطل الذي لا خلاف فيه والمسائل المنوطة بقواعد اختلفت النظرات الاجتهادية في كيفية الأخذ بها وتطبيقها على الجزئيات فكان للمجتهدين من جراء ذلك سعة في أن يختلفوا بشأنها وهي المسائل التي نستعرض الآن نماذج وأمثلة لها من خلال هذه الأصول الثلاثة التي عقدنا على محورها هذا الفصل.
ترى لو نظرنا هؤلاء الناس إلى رأي ابن تيمية في بعض قضايا العقائد كرأيه في هاتين المسألتين ورأيه في استطاعة العبد التي هي مناط التكليف وغير ذلك بماذا كان ينبغي أن نحكم عليه من خلال منظارهم المبتدع العجيب هذا كان علينا أولا أن نخرجه من دائرة الجماعة الإسلامية المقبولة والتي تحدها شارة السلفية لأنه قد تبنى رأيا في كل من هذه المسائل لم يقل به واحد من السلف. وكان علينا ثانيا أن ننسبه إلى الابتداع وربما الإشراك لأنه قد جنح عن الحق الذي ليس بعده إلا الضلال. وإنما الحق في هذا المنظار الواقع الجامد الذي لا حركة فيه والذي ترصده العصور الثلاثة في صدر الإسلام دون أن يؤخذ بعين الاعتبار تحكيم أي منهج في المعرفة أو ميزان لتفسير النصوص هذا الميزان الذي قد يسوغ وقوع الاختلاف في بعض أو كثير من الأحيان لو أننا وعيناه ووضعناه موضع التحكيم والاعتبار.


Related Posts by Categories



Tidak ada komentar:

Posting Komentar