مقدمة

إنّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

وبعد :

Alhamdulillah, berkat Taufiq serta Hidayah-Nya, akhirnya blog sederhana ini dapat terselesaikan juga sesuai dengan rencana. Sholawat salam semoga selalu tercurah kepada Nabi Muhammad SAW beserta keluarga dan sahabat-sahabatnya.

Bermodal dengan keinginan niat baik untuk ikut serta mendokumentasikan karya ilmiah perjuangan Syaikhina Muhammad Najih Maemoen, maka sengaja saya suguhkan sebuah blog yang sangatlah sederhana dan amburadul ini, tapi Insya Allah semua ini tidak mengurangi isi, makna dan tujuhan saya.

Blog yang sekarang ini berada di depan anda, sengaja saya tampilkan sekilas khusus tentang beliau Syaikhina Muhammad Najih Maemoen, mengingat dari Ponpes Al Anwar Karangmangu Sarang sudah memiliki website tersendiri yang mengupas secara umum keberadaan keluarga besar pondok. Tiada lain tiada bukan semua ini sebagai rasa mahabbah kepada Sang Guru Syaikhina Muhammad Najih Maemoen.

Tidak lupa saya haturkan beribu terima kasih kepada guru saya Syaikhina Maemoen Zubair beserta keluarga, terkhusus kepada beliau Syaikhina Muhammad Najih Maemoen yang selama ini telah membimbing dan mengasuh saya. Dan juga kepada Mas Fiqri Brebes, Pak Tarwan, Kak Nu'man, Kang Sholehan serta segenap rekan yang tidak bisa saya sebut namanya bersedia ikut memotifasi awal hingga akhir terselesainya blog ini.

Akhirnya harapan saya, semoga blog sederhana ini dapat bermanfa’at dan menjadi Amal yang di terima. Amin.

Minggu, 30 Mei 2010

الإمام أبو الحسن الأشعري وعقيدة أهل السنة

هذه رسالة لأبي القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس رحمه الله
في إثبات نسبة كتاب الإبانة للإمام أبي الحسن الأشعري
وفي الذب عن عقيدته التي ذكرها فيه



قال أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن دردباس:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وخصص نبينا محمدا وآله منه بالنصيب الأوفى، أما بعد: فاعلموا معشر الإخوان وفقنا الله وإياكم للدين القويم، وهدانا أجمعين للصراط المستقيم بأن " كتاب الإبانة عن أصول الديانة " الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الإعتزال بمنّ الله ولطفه وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه، فقد رجع عنه وتبرأ إلى الله سبحانه منها، كيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها وروى وأثبت ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، وأنه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسلوه فهل يسوغ أن يقال إنه رجع عنه إلى غيره فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون،
وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين كيف بأئمة الدين؟، أو هل يقال : إنه جهل الأمر فيما نقله عن السالفين الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات، هذا مما لا يتوهمه منصف ولا يزعمه إلا مكابر مشرف، ويكفيه معرفته بنفسه إنه على غير شيء؛ وقد ذكر الكتاب واعتمد عليه وأثبته عن الإمام أبي الحسن رحمة الله عليه وأثنى عليه بما ذكره فيه وبرأه من كل بدعة نسبت إليه ، ونقل منه إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم، منهم الإمام الفقيه الحافظ أبو بكر البيهقي، صاحب التصانيف المشهورة والفضائل المأثورة، اعتمد عليه في كتاب الإعداد لـه، وحكي عنه في مواضع منه ولم يذكر من تأليفه سواه، فقال في باب القول في القرآن: ما أنبأنا الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي المعروف بابن عساكر بقراءتي عليه قال: أنبأ أبو عبد الله محمد بن الفضل ابن أحمد الفراوي الصاعدي قراءة عليه، أنبأ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي قال: وقد حكي عن الشافعي رحمه الله ما دل على أن ما نتلوه من القرآن بألسنتنا ونسمعه بآذاننا ونكتبه في مصاحفنا كلام الله قال: وبمعناه ذكره أيضا علي بن إسماعيل يعني أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه في كتابه، فإن قال قائل: حدثونا أتقولون إن كلام الله في اللوح المحفوظ؟، قيل لـه: نقول ذلك لأن الله قال:  بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ، فالقرآن في اللوح المحفوظ وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال الله تعالى:  بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وهو متلو بالألسنة، قال الله تعالى:  لا تحرك به لسانك ، فالقرآن مكتوب في الحقيقة محفوظ في صدورنا في الحقيقة متلو بألسنتنا في الحقيقة مسموع لنا في الحقيقة كما قال الله تعالى:  فأجره حتى يسمع كلام الله ، هذا آخر ما حكاه البيهقي أيضا في أول هذا الباب بعد احتجاجه بآيات وغيرها مما هو مذكور في كتاب الإبانة .
فقال: وقد احتج علي بن إسماعيل بهذا الفصول، ومنهم: الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي ، فإنه قال في بيان مسئلة الاستواء من تأليفه ما أخبرنا به، أنبأ الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت قال: رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري وما هذا بأول باطل ادعوه وكذب تعاطوه فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ" الإبانة عن أصول الديانة" أدلة من جملة ما ذكرته على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم يقولون يا ساكن العرش ثم قال ومن حلفهم جميعا قولهم لا والذي احتجب بسبع سموات. هذا آخر ما حكاه وهو في الإبانة كما ذكره.
ومنهم: الإمام الأستاذ الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني، فإنه قال: ما أنبأني به الشيخ الجليل أبو محمد القاسم بن الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر الشافعي ببيت المقدس حرسه الله سنة ست وسبعين وخمسمائة، قال: أنباني أبي، قال: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخربَوي الفقيه الزاهد أراه يحكي عن بعض شيوخه أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب بها ، ويقول: ما الذي ينكر علي من هذا الكتاب شرح مذهبه، قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر عقب هذه الحكاية: فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان.
ومنهم: إمام القراء أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي، فإنه قال: ما أنبأني به الإمام الحافظ أبو طاهر السلفي عن أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أبي علي الصيرفي، وأخبرنا أبو الحسن علي ابن إبراهيم وفاطمة بنت الحافظ سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاريان قالا: أنبأنا الإمام أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقري وذكر الإمام أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه فقال: وله كتاب في السنة سماه كتاب (الإبانة) صنفه ببغداد لما دخلها، قال: وله مسألة في الإيمان إنه غير مخلوق. قلت: أنا وهذه المسألة قد ذكرها الحافظ أبو القاسم بن عساكر أثبتها عنه وهي عندنا من رواية الإمام الحافظ أبي طاهر السلفي ولم يقع لي شيء من تأليف أبي الحسن بالرواية المتصلة إليه سواها.


ومنهم: الإمام الفقيه أبو الفتح نصر المقدسي رحمه الله فإني وجدت كتاب الإبانة في كتبه ببيت المقدس حرسه الله ورأيت في بعض تأليفه في الأصول فصولا منها بخطه.
ومنهم: الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي المعروف بابن عساكر، فإنه قال في كتاب "تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري" رادّا على من زعم أن أبا الحسن لم يكن يدين الله تعالى بما ذكره في كتاب "الإبانة"، فقال: ما أنبأني به ابنه الشيخ الجليل أبو محمد القاسم، أنبأ أبي رحمه الله، قال: وما ذكره (يعني الزاعم) ما تقدم في كتابه الإبانة فقول بعيد من أهل الديانة ، كيف يصنف في العلم كتابا يخلده، وقولا يقول بصحة ما فيه ولا يعتقده بل هم يعني المحققين من الأشعرية يعتقدون ما فيها أشد اعتقاد، ويعتمدون عليها أشد اعتماد، فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون لـه سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات وما وصفه به نبيه  في صحيح الروايات. قال: ولم يزل كتاب الإبانة مستصوبا عند أهل الديانة، ثم حكى ما حكيناه عن الأستاذ أبي عثمان الصابوني، وقال في موضع آخر من كتابه هذا: فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد ، فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة ، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بـ "الإبانة" فإنه قال: الحمد لله، ثم استمر الحافظ أبو القاسم رحمه الله في إيراد الكلام على نصه وفصه من أوله إلى باب الكلام في إثبات الروية لله عز وجل بالأبصار في الآخرة حرفا حرفا كما شرط، ثم قال عقيب ذلك: فتأملوا رحمكم الله، هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه واعترفوا بفضل هذا الإمام العادل الذي شرحه وبينه، وانظروا سهولة لفظه فما أفصحه وأحسنه، وكونوا ممن قال الله فيهم:  الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه واسمعوا وصفه لاحمد بالفضل واعترافه لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين.
ولم تزل الحنابلة في بغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات يعتقدون بالأشعرية حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر بن القشيري ووزارة النظام، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام.
ومنهم: الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب كتاب الذخائر في الفقه، فقد أنبأني غير واحد عن الحافظ أبي محمد المبارك بن علي البغدادي ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة قال: نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه مجلي الشافعي أخرجها إلي في مجلد فنقلتها وعارضت بها، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول لله من صنفه ويناظر على ذلك لمن ينكره وذكر ذلك لي وشافهني به، وقال: هذا مذهبي وإليه أذهب فرحمنا الله وإياه، نقلت ذلك في سنة أربعين وخمسمائة بمكة حرسها الله.هذا آخر ما نقلته من خط ابن الطباخ رحمه الله.
ومنهم: الحافظ أبو محمد بن علي البغدادي، نزيل مكة حرسها الله، فإني شاهدت نسخة بكتاب الإبانة بخطه من أوله إلى آخره ، وفي آخره بخطه ما تقدم ذكره آنفا، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن ابن المفضل المقدسي، ونسخت منها نسخة وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس حرسه الله، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولا هي من تصنيفه واجتهد آخرا في أعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته، فقال بعد تحريك لحيته: لعله ألفها لما كان حشويا، فما دريت من أي أمرَيه أعجب؛ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثره من ذكره في التصانيف من العلماء، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها، وشبهت أمره في ذلك بحكاية أنبأها الإمام أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الحافظ رحمه الله قال: أنبأ...(1)
فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحاببة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم، هم والله بذلك أجهل، وأجهل كيف لا، قد قنع أحدهم بكتاب ألفه بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه وهو في الحقيقة مخالف لمقالة أبي الحسن التي يرجع إليها واعتمد في تدينه عليها قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة. والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 تصدير 
بسم الله ، والصلاة والسلام على هادي الإنسانية الأعظم محمد ، ومن والاه.
وبعد؛ فإن كتاب ( الإبانة ، عن أصول الديانة )من أنفس مصنفات الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى ابن الأمير الكبير بلال ابن التابعي الشهير أبي بردة ابن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري.
ولد الإمام أبو الحسن الأشعري في البصرة سنة (260) أو (270) ، وتوفي إلى رحمة الله ببغداد سنة (330) أو قبلها أو بعدها. وكانت البصرة عند نشأته العلمية بؤرة الاعتزال، فانغمس في ذلك –كأمثاله- في أول نشأته ، ثم أراد الله لـه السلامة من ذلك فهداه إلى مذهب السلف في إثبات صفات الله عز وجل من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل ، لأنها من أمر الغيب ، والإيمان بها واجب من غير تكييف ، والسلامة في إمرارها كما وردت مع اعتقاد أن الله سبحانه ليس كمثله شيء. لما وقف الأشعري على هذه الحقيقة الإسلامية ، وآمن بها، انبرى لمناظرة المعتزلة في فساد ما ذهبوا إليه من تأويل الصفات وصرفها عن مدلولاتها ، وألف أكثر من ثلاثمائة كتاب في الرد على المعتزلة بأساليبهم ومقاييسهم ، وكان ذلك هو الطور الثاني من حياته العلمية.
ثم أتم الله عليه نعمته فانتقل إلى بغداد ، واتصل فيها بأعلام أتباع الإمام أحمد ، فأخلص إيمانه بالله عز وجل وصفاته على ما كان عليه سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله  والتابعين لهم بإحسان، ومنهم الأئمة المتبوعون الآن: أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل. وفي هذا الطور الثالث ألف أبو الحسن الأشعري كتابيه الأخيرين اللذين أحسن الله خاتمته بهما ، وهما كتاب (الإبانة) هذا ، وكتابه الآخر (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، فكل ما يخالف طريقته في هذين الكتابين مما ألفه قبل ذلك في طور مكافحته للاعتزال بمقاييسه قد رجع منه إلى ما في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين). وبذلك أحسن الله لـه الخاتمة، والحمد لله الذي ينعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على معلم الناس الخير محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال السيد الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري رحمه الله:
الحمد لله الواحد ، العزيز الماجد. المتفرد بالتوحيد، والمتمجد بالتحميد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، ليس لـه منازع ولا نديد. وهو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد. جلّ عن اتخاذ الصواحب والأولاد، وتقدس عن ملابسة الأجناس والأرجاس. ليس لـه صورة تقال، ولا حدّ يضرب لـه المثال. لم تزل صفاته أولا قديرا، ولا يزال عالما خبيرا. استوفى الأشياء علمه، ونفذت فيها إرادته. ولم تعزب عنه خفيات الأمور، ولم تغيره سوالف صروف الدهور. ولم يلحقه – في خلق شيء مما يخلق – كلال ولا تعب، ولا مسه لغوب ولا نصب. خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته. فذلّ لعظمته المنكرون، واستكان لعزّ ربوبيته المتكلمون، وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون. وذلت له الرقات، وحارت في ملكوته لطن ذوي الألباب. وقامت بحكمته السماوات والسبع، واستقرت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللوافح، وسار في جو السماء السحاب وقامت في حدودها البحار، وهو الواحد القهار.
فنحمده كما حمد نفسه، وكما هو أهله ومستحقه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه. ونستعينه استعانة من فوّض أمره إليه، وأقرّ أنه لا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه. ونستغفره استغفار مقرّ بذنبه، معترف بخطيئته.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بوحدانيته، وإخلاصا لربوبيته، وأنه العالم بما تبطنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وما تخفيه النفوس، وما تجنّ البحار، وما تواري الأسراب، وما تغيض الأرحام وما تزداد، كل شيء عنده بمقدار، لا توارى عنه كلمة، ولا تغيب عنه غاية  وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة من ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين  (1). ويعلم ما يعمل العاملون، وما ينقلب إليه المنقلبون. ونستهديه بالهدى، ونسأله التوفيق لمجانبة الردى.
ونشهد أن محمدا  عبده ورسوله، ونبيه وأمينه وصفيه. أرسله إلى خلقه بالنور الساطع، والسراج اللامع. والحجج الظاهرة، والبراهين والآيات الباهرة، والأعاجيب القاهرة. فبلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، حتى تمت كلمة الله عز وجل، وظهر أمره، وانقاد الناس للحق خاضعين، حتى أتاه اليقين، لا وانيا ولا مقصرا.فصلوات الله عليه من قائد إلى هدى مبين، وعلى أهل بيته الطيبين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين. عرفنا الله به الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، وبين لنا شريعة الإسلام. حتى انجلت عنا طخياء الظلم، وانحسرت عنا به الشبهات، وانكشفت عنا به الغيابات، وظهرت لنا به البينات. وجاءنا بكتاب عزيز  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، جمع فيه علم الأولين والآخرين، وأكمل به الفرائض والدين. فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين. فمن تمسك به نجا، ومن تخلف ضل وغوى، وفي الجهل تردّى. وحثّ الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله عليه السلام فقال عز وجل:  وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا  (1)، وقال عز وجل:  فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم  (2) وقال:  ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم  (3)، وقال:  وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله (4) يقول: إلى كتاب الله وسنة نبيه. وقال:  وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى (5)، وقال:  قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إليّ  (6)، وقال: إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا  (7) فأمرهم أن يسمعوا قوله، ويطيعوا أمره، ويحذروا مخالفته. وقال:  أطيعوا الله وأطيعوا الرسول  (8)، فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته، ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه كما أمرهم بالعمل بكتابه. فنبذ كثير ممن غلبت عليه شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله عليه السلام وراء ظهورهم، ومالوا إلى أسلاف لهم قلدوهم دينهم، ودانوا بدياناتهم، وأبطلوا سنن نبي الله عليه السلام، ودفعوها، وأنكروها وجحدوها افتراء منهم على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله عز وجل، وأحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، تضرّ أهلها، وتخدع ساكنها. قال الله تعالى:  واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا (1). من كان فيها في خيرة أعقبته بعدها غيره، ومن أعطته من شرابها بطنا أعقبته من ضرابها ظهرا. غرّارة، غرور ما فيها. فانية، فإن ما عليها، كما حكم عليها ربها بقوله إذ يقول:  كل من عليها فان (2). فاعلموا رحمكم الله للحياة الدائمة، ولخلود الأبد، فإن الدنيا تنقضي عن أهلها، وتبقى الأعمال قلائد في رقاب أهلها. واعلموا أنكم ميتون، ثم أنكم من بعد موتكم إلى ربكم راجعون،  ليجزي الذين أساءوا بما علموا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (3). فكونوا بطاعة ربكم عاملين، وعما نهاكم منتهين.
باب في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة
أما بعد، فإن الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأوّلوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين، وخالفوا روايات الصحابة عليهم السلام عن نبي الله صوات الله عليه في رؤية الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات، من الجهات المختلفات، وتواترت بها الآثار، وتتابعت بها الأخبار. وأنكروا شفاعة رسول الله  للمذنبين، ودفعوا الروايات في ذلك عن المتقدمين، وجحدوا عذاب القبر وأن الكفار في قبورهم يعذّبون، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون. وتكلموا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا:  إنْ هذا إلا قول البشر (4) وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر. وزعمت القدرية أن الله عز وجل يشاء ما يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وردّا لقول الله عز وجل: وما تشاءون إلا أن يشاء الله(1) فأخبر أنا لا نشاء شيئا إلا وقد شاء الله أن نشاء، ولقوله تعالى: ولو شاء الله ما اقتتلوا(2) ولقوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها(3) ولقوله تعالى: فعال لما يريد(4)، ولقوله تعالى مخبرا عن شعيب أنه قال: وما يكون لنا أن يعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علما(5) ولهذا سماهم رسول الله  مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا أقاويلهم، وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله كما قالت المجوس، وأنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله، ردا لقول الله عز وجل لنبيه عليه السلام: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله(6)، وإعراضا عن القرآن وعما أجمع عليه أهل الإسلام(7). وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم، فأثبتوا لأنفسهم الغني عن الله عز وجل، ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما يصفون الله عز وجل بالقدرة عليه كما أثبتت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز وجل، فكانوا مجوس هذه الأمة إذا دنوا بديانة المجوس، وتمسكوا بأقاويلهم، ومالوا إلى أضاليلهم، وقنطوا الناس من رحمة الله وأيسوهم من روحه، وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها، خلافا لقول الله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء(1)، وأنكروا أن يكون له يدان مع قوله: لما خلقت بيدي(2). وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله: تجري بأيعننا(3). وأنكروا أن يكون لله علم مع قوله: أنزله بعلمه(4). وأنكروا أن يكون لله قوة مع قوله: ذو القوة المتين(5). ونفوا ما روي عن النبي : أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وغير ذلك مما رواه الثقات عن رسول الله .
وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية أهل الزيغ فيما ابتدعوا خالفوا الكتاب والسنة وما كان عليه النبي عليه السلام وأصحابه وأجمعت عليه الأمة كفعل المعتزلة القدرية، وأنا ذاكر ذلك بابا بابا وشيئا شيئا إن شاء الله وبه المعونة.
باب في إبانة قول أهل الحق والنسة
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرّفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن ذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن جنبل – نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته – قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم.
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبماجاؤوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله ، لا نرد من ذلك شيئا. وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى(1)، وأن له يدين بلا كيف(2) كما قال: خلقت بيدي(3) وكما قال: بل يداه مبسوطتان(4)، وأن له عينين بلا كيف كما قال: تجري بأعيننا(5). وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضلا. وأن الله علما كما قال: أنزله بعلمه(6) وكما قال: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه(7). ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج. ونثبت أن الله قوة كما قال: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة(8).
[ونقول: إن كلام الله غير مخلوق]، وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له: كن كما قال: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون(9)، وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل، وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، ولا يستغني عن الله، ولا يقدر على الخروج عن علم الله عز وجل. وأنه لاخالق إلا الله، وأن أعمال العبد مخلوقة لله مقدرة كما قال: خلقكم وما تعملون(1)، وأن العباد لا يقدرون أنيخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال: هل من خالق غير الله(2) وكما قال: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون(3)، وكما قال: أفمن يخلق كمن لا يخلق(4)، وكما قال: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون(5) وهذا في كتاب الله كثير. وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنا مؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره خلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بالله كما قال عز وجل: ونلجئ أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه(6).
ونقول: إن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله .
ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال عز وجل: كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون(7) وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله سبحانه تجلى للجبل فجعله دكّا، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا. وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه – كالزنا والسرقة وشرب الخمور – كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون.
ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر – مثل الزنا والسرقة وما أشبههما – مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا.
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا. وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله . وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله  بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.
ونقول: إن الله عز وجل يخرج قوما من النار – بعد أن امتحشوا – بشفاعة رسول الله  تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله . ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص(1) ونسلم بالروايت الصحيحة عن رسول الله  التي رواها الثقات: عدل من عدل حتى تنتهي إلى رسول الله .
وندين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه عليه السلام، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله  (أبو بكر الصديق) رضوان الله عليه، وإن الله أعزّ به الدين وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول الله  للصلاة، وسموه بأجمعهم(2) "خليفة رسول الله ". ثم (عمر بن الخطاب) . ثم (عثمان بن عفان) ، وأن الذين قاتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا(1). ثم (علي بن أبي طالب) . فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله  وخلافتهم خلافة النبوة. ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله  بها. ونتولى سائر أصحاب النبي ، ونكفّ عما شجر بينهم، وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء، لا يوازيهم في الفضل غيرهم.
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل، هل من مستغفر؟، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل. ونعوّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه. ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله  يجيء يوم القيامة كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا(2)، وإن الله  يقرب من عباده كيف شاء كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد(3)، وكما قال: ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى(4).
ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل دبر وغيره كما روي عن عبد الله بن عمر كان يصلي خلف الحجاج. وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإماماتهم. وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة.
ونقرّ بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله . ونؤمن بعذاب القبر، ونكير ومنكر ومساءلتها المدفونين بقبورهم. ونصدّق بحديث المعراج. ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقرّ أن لذلك تفسيرا. ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك. ونصدّق بأن في الدنيا سحرة وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا. وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برّهم وفاجرهم وتوارثهم. ونقرّ أن الجنة والنار مخلوقتان. وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل. وأن الأرزاق من قبل الله  يرزقها عباده حلالا وحراما. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويسلكه ويتخبطه، خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس(1)، وكما قال: من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس(2).
ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله  بآيات يظهرها عليهم. وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم: اقتحموها، كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله  بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون. وبطاعة الأئمة وبصحبة المسلمين.
ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الهوى. وسنحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقي منه مما لم نذكره، بابا بابا وشيئا وشيئا إن شاء الله.






باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى
بالأبصار في الآخرة
قال الله : وجوه يومئذ ناضرة –يعني مشرقة – إلى ربها ناظره(1) يعني رائية. وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها: إما أن يكون الله  عنى "نظر الاعتبار" كقوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت(2)؟ أو يكون عنى "نظرة الانتظار" كقوله: ما ينظرون إلا صيحة واحدة(3)، أو يكون عنى "نظر الرؤية" فلا يجوز أن يكون الله  عنى نظر التفكير والاعتبار، لأن الآخرة ليس بدار اعتبار. ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار، لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه "نظر العينين" اللتين في الوجه، كما إذا ذكر أهل اللسان "نظر القلب" فقالوا: انظر في هذا الأمر بقلبك، لم يكن معناه الانتظار الذي بالقلب. وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة، لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة في "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت" من العيش السليم والنعيم المقيم. وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين، لأنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطورة ببالهم. وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم. وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة، صح القسم الرابع من أقسام "النظر" وهو أن معنى قوله تعالى: إلى ربها ناظرة(4) أنها "رائية" برى ومما يبطل قول المعتزلة إن الله  أراد بقوله إلى ربها ناظرة: "نظر الانتظار"، أنه قال: إلى ربها ناظرة، و "نظر الانتظار" لا يكون مقرونا بقوله "إلى" لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في "نظر الانتظار" إلى، ألا ترى أن الله  قال: ما ينظرون إلا صيحة واحدة(5) لم يقل "إلى" إذ كان معناه الانتظار، وقال عن بلقيس: فناظرة بم يرجع المرسلون(1)، فلما أرادت "الانتظار" لم تقل "إلى"، وقال امرؤ القيس:
فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر تنفعني لدى أم جندب
فلما أراد "الانتظار" لم يقل "إلى". فلما قال الله : إلى ربها ناظرة علمنا أنه لم يرد "الانتظار" وإنما أراد "نظر الرؤية". ولما قرن الله النظر بذكر الوجه أراد نظر العينين اللتين في الوجه، كما قال:  قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك..(2) فذكر الوجه، وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينتظر نزول الملك عليه بصرف الله له عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة.
ودليل آخر  ومما يدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار قول موسى: رب أرني أنظر إليك(3)، ولا يجوز أن يكون موسى عليه السلام وقد ألبسه الله تعالى جلباب النبيين، وعصمه بما عصم به المرسلين، يسأل ربه ما يستحيل عليه، وإذا لم يجز ذلك على موسى فقد علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا، وأن الرؤية جائزة على ربنا عز وجل. ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا – كما زعمت المعتزلة – ولم يعلم ذلك موسى عليه السلام وعلمواهم، لكانوا على قولهم أعلم بالله من موسى عليه السلام، وهذا ما لا يدّعيه مسلم.
ودليل آخر  مما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار قول الله تعالى لموسى: فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلما كان الله  قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى، فدل ذلك على أن الله تعالى قادر على أن يرى عباده نفسه، وأنه جائز رؤيته.
ودليل آخر  قال الله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة(1)، قال أهل التأويل: [الزيادة] النظر إلى الله ، ولم ينعم الله  أهل جناته بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له، وقال : ولدينا مزيد(2)، قيل: النظر إلى الله . وقال: تحيتهم يوم يلقونه سلام(3) وإذا لقيه المؤمنون رأوه. وقال الله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون(4) فحجبهم عن رؤيته، ولا يحجب عنها المؤمنين.
مسألة، والجواب عنهافإن قال قائل: قد استكبر الله سؤال السائلين له أن يرى بالأبصار، فقال: يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أردنا الله جهرة(5)، فيقال لهم: إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله  على طريق الإنكار لنبوة موسى وترك الإيمان به حتى نرى الله، لأنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة(6)، فلما سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان بموسى عليه السلام حتى يريهم الله نفسه استعظم الله سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا، لكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتابا.
دليل آخرومما يدل على رؤية الله  بالأبصار ما روته الجماعات من الجهات المختلفات عن رسول الله  أنه قال: "ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته". والرؤية إذا أطلقت إطلاقا ومثلت برؤية العيان لم يكن معناها إلا الرؤية العيان.
ورويت الرؤية عن رسول الله  من طرق مختلفة، عدة رواتها أكثر من عدة رواة خبر الرجم، ومن عدة من روى أن النبي  قال: "لا وصية لوارث"، ومن عدة رواة المسح على الخفين، ومن عدة قول رسول الله : "لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها"، وإذا كان الرجم وما ذكرناه سننا عند المعتزلة كانت الرؤية أولى أن تكون سنة لكثرة رواتها ونقلتها، يرويها خلق عن...(1)
الحديث ألا حجة فيه لأنه إنما سأل النبي  عن رؤية الله  في الدنيا وقال له: هل رأيت ربك؟، فقال: نور، أني أراه، لأن العين لا تدرك في الدنيا الأنوار المخلوقة على حقائقها، لأن الإنسان لو حدق بنظره إلى عين الشمس فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره، فإذا كان الله  حكم في الدنيا بأن لا تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس فأحرى أن لا يثبت البصر للنظر إلى الله  في الدنيا إلا أن يقويه الله ، فرؤية الله سبحانه في الدنيا قد اختلف فيها، وقد روي عن أصحاب رسول الله  أن الله  تراه العيون في الآخرة، وما روي عن أحد منهم أن الله  لا تراه العيون في الآخرة، فلما كانوا على هذا مجمعين وبه قائلين – وإن كانوا في رؤيته في الدنيا مختلفين – ثبتت الرؤية في الآخرة إجماعا وإن كانت في الدنيا مختلفا فيها، ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية الله في الآخرة على أن هذه الرواية على المعتزلة لا لهم، لأنهم ينكرون أن الله نور في الحقيقة، فإذا احتجوا بخبرهم له تاركون وعنه منحرفون كانوا محجوبين.
دليل آخرومما يدل على رؤية الله  بالأبصار أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله ، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله  موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه ، وإنما أراد من نفي رؤية الله  بالأبصار التعطيل، فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا أظهروا ما يئول بهم إلى التعطيل والجحود، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله  يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه، وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا، فلما كان الله  عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، فلما كان الله  رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان علما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال الله تعالى: إنني معكما أسمع وأرى(1) فأخبر أنه سمع كلامهما ورآهما، ومن زعم أن الله  لا يجوز أن يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله  رائيا ولا عالما ولا قادرا، لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى. فإن قال قائل: قول النبي : "ترون ربكم" يعني تعلمون ربكم اضطرارا، قيل له: إن النبي  قال لأصحابه هذا على البشارة فقال: "فكيف بكم إذا رأيتم الله " ولا يجوز ان يبشرهم بأمر بشركهم فيه الكفار. على أن النبي  قال: "ترون ربكم" وليس يعني رؤية دون رؤية، بل ذلك عام في رؤية العين ورؤية القلب.
دليل آخر أن المسلمين اتفقوا على أن الجنة فيها "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" من العيش السليم والنعيم المقيم، وليس نعيم في الجنة أفضل من رؤية الله  بالأبصار، وأكثر من عبد الله  عبده للنظر إلى وجهه، فإذا لم يكن بعد رؤية الله أفضل من رؤية نبيه ، وكانت رؤية نبي الله أفضل لذات الجنة، كانت رؤية الله  أفضل من رؤية نبيه عليه السلام وإذا كان ذلك كذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسلين وملائكته المقربين وجماعة المؤمنين والصديقين النظر إلى وجهه ، وذلك أن الرؤية لا تؤثر في المرئي، لأن رؤية الرائي تقوم به، فإذا كان هذا هكذا وكانت الرؤية غير مؤثرة في المرئي ثم توجب تشبيها ولا انقلابا عن حقيقة ولم يستحيل على الله  أن يُري عباده المؤمنين نفسه في جناته.
باب الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق
إن سأل سائل عن الدليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، قيل له: الدليل على ذلك قوله : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره(1) وأمر الله هو كلامه وقوله، فلما أمرهم بالقيام فقامتا لا تهويان كان قيامهما بأمره. وقال : ألا له الخلق والأمر(2) فالخلق جميع ما خلق داخل فيه، لأن الكلام إذا كان لفظه عاما فحقيقته أنه عام، ولا يجوز لنا أن نزيل الكلام عن حقيقته بغير حجة ولا برهان، فلما قال ألا له الخلق كان هذا في جميع الخلق، ولما قال والأمر ذكر أمرا غير جميع الخلق، فدل ما وصفنا على أن أمر الله غير مخلوق.
دليل آخر ومما يدل من كتاب الله على أن كلامه غير مخلوق قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون(3) فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقولا له "كن" فيكون، ولو كان الله  قائلا للقول "كن" كان القول قولا، وهذا يوجب احد أمرين: إما أن يؤل الأمر إلى أن "قول الله" غير مخلوق، أو يكون كل "قول" واقعا "بقول" لا إلى غاية، وذلك محال. وإذا استحال ذلك صح وثبت أن لله عز......(keto-e kurang)
دليل آخر وقال الله : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي(4) فلو كانت البحار مدادا كتب لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم يلحق الفناء كلمات ربي، كما لا يلحق الفناء علم الله ، ومن فني كلامه لحقته الآفات، وجرى عليه السكوت. فلما لم يجز ذلك على ربنا  صح أنه لم يزل متكلما، لأنه لو لم يكن متكلما وجب السكوت والآفات، تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا.
 فصل 
وزعمت الجهمية كما زعمت النصارى. لأن النصارى زعمت أن (كلمة الله) حواها بطن مريم، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة كانت الشجرة حاوية له (1)، فلزمهم أن يكون الشجر بذلك الكلام متكلما، ووجب عليهم أن مخلوقا من المخلوقين كلم موسى، وأن الشجرة قالت:  يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني(2)، وقد قال الله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين(3) وكلام الله  من الله، لا يجوز أن يكون كلامه الذي هو منه مخلوقا في شجرة مخلوقة، كما لا يجوز أن يكون علمه الذي هو منه مخلوقا في غيره، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
جواب: ويقال لهم كما لا يجوز أن يخلق الله  إرادته في بعض المخلوقات كذلك لا يجوز أن يخلق كلامه في بعض المخلوقات. ولو كانت إرادة الله مخلوقة في بعض المخلوقات لكان ذلك المخلوق هو المريد لها، وذلك يستحيل، وكذلك يستحيل أن يخلق الله كلامه في مخلوق، لأن هذا يوجب أن ذلك المخلوق متكلم له، ويستحيل أن يكون كلام الله  كلاما للمخلوق.
دليل آخر ومما يبطل قولهم أن الله  قال مخبرا عن المشركين أنهم قالوا:  إنْ هذا إلا قول البشر(4) يعني القرآن، فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر، وهذا ما أنكر الله على المشركين. وأيضا فلو لم يكن الله متكلما حتى خلق الخلق ثم تكلم بعد ذلك لكانت الأشياء قد كانت لا عن أمره ولا عن قوله ولم يكن قائلا لها: كوني. وهذا رد القرآن، والخروج عما عليه جمهور أهل الإسلام.
 فصل 
واعلموا رحمكم الله أن قول الجهمية إن كلام الله مخلوق يلزمهم به أن يكون الله  لم يزل كالأصنام التي لا تنطق ولا تتكلم لو كان لم يزل غير متكلم، لأن الله  يخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه لما قالوا له: من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟، قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون(1) فاحتج عليهم بأن الأصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة، وأن الإله لا يكون غير ناطق ولا متكلم، فلما كانت الأصنام التي لا يستحيل أن يحييها الله وينطقها لا تكون آلهة فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكلام في قدمه إلها؟، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإذا لم يجز أن يكون الله سبحانه في قدمه بمرتبة دون مرتبة الأصنام التي لا تنطق فقد وجب أن يكون لم يزل متكلما.
دليل آخر وقد قال الله تعالى مخبرا عن نفسه أنه يقول: لمن الملك اليوم(2)؟ وجاءت الرواية أنه يقول هذا القول فلا يرد عليه أحد شيئا، فيقول: لله الواحد القهار فإذا كان  قائلا مع فناء الأشياء – إذ لا إنسان ولا ملك ولا حي ولا جان ولا شجر ولا مدر – فقد صح أن كلام الله  خارج عن الخلق، لأنه يوجد ولا شيء من المخلوقات موجود.
دليل آخر وقد قال الله : وكلم الله موسى تكليما(3)، والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالا في غيره مخلوقا في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم.
دليل آخر ؛ وقد قال الله تعالى :  شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط (4) ولا بد أن يكون شهد بهذه الشهادة وسمعها من نفسه لأنه إن كان سمعها من مخلوق فليست شهادة له ، وإذا كانت شهادة له وقد شهد له بها فلا يخلو أن يكون شهد بها قبل كون المخلوقات أو بعد كون المخلوقات ، فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات فلم تتسق شهادته لنفسه بآلهية الخلق ، وكيف يكون ذلك كذلك وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن ، فشهد به شاهدا قبل الخلق ، ولو اشتحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق لاستحالة إثبات التوحيد ووجوده وأن يكون واحدا قبل الخلق ، لأن ما تستحيل الشهادة عليه فمستحيل ، وإن كانت شهادته لنفسه بالتوحيد قبل الخلق فقد بطل أن يكون كلام الله عز وجل مخلوقا ، لأن كلامه شهادته.
الرد على الجهمية  ثم يقال لهم : إذا كان غضب الله غير مخلوق وكذلك رضاه وسخطه ، فلمَ لا قلتم إن كلامه غير مخلوق ، ومن زعم أن غضب الله مخلوق لزمه أن غضب الله وسخطه على الكافرين يفنى ، وأن رضاه عن الملائكة والنبيين يفنى ، حتى لا يكون راضيـًا عن أوليائه ولا ساخطـــًا على أعدائه ، وهذا الخروج عن الإسلام. ويقال خبرونا عن قول الله عز وجل :  إنما قولنا لشيء إذ أردناه أن نقول له كن فيكون (5) أتزعمون أن قوله للشيء "كن" مخلوق مراد لله ؟، فإن قالوا: لا ، قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون كلام الله الذي هو القرآن غير مخلوق ، كما زعمتم أن قول الله للشيء "كن" غير مخلوق. وإن زعموا أن قول الله للشيء "كن" مخلوق، قيل لهم: فإن زعمتم أنه مخلوق مراد فقد قال الله عز وجل  إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون  فيلزمكم أن قوله للشيء "كن" قد قال له "كن" وفي هذا ما يجب أحد أمرين: إما أن يكون قول الله لغيره "كن" غير مخلوق ، أو يكون لكل قول قول لا إلى غاية وذلك محال. فإن قالوا: إن لله قولا غير مخلوق ، قيل لهم: فما أنكرتم أن تكون إرادة الله للإيمان غير مخلوقة. ثم يقال لهم: ما العلة لما قلتم إن قول الله للشيء "كن" غير مخلوق؟، فإن قالوا: لأن القول لا يقال له "كن" ، فيقال لهم: والقرآن غير مخلوق لأنه قول الله ، والله لا يقول لقوله "كن".
الرد على الجهمية  ويقال لهم: أليس لم يزل الله عالمــًا بأوليائه وأعدائه ؟، فلا بد من نعم . قيل لهم: فهل تقولون إنه لم يزل مريدا للتفرقة بين أوليائه وأعدائه؟، فإن قالوا: نعم ، قيل لهم: فإذا كانت إرادة الله لم تزل فهي غير مخلوقة ، وإذا كانت إرادته غير مخلوقة فلمَ لا قلتم: إن كلامه غير مخلوق؟، فإن قالوا: لا ، نقول لم يزل مريدا للتفريق بين أوليائه وأعدائه زعموا أن الله لا يريد التفريق بين أوليائه وأعدائه ونسبوه سبحانه إلى النقص، تعالى عن قول القدرية علوًا كبيرًا.
جواب  ويقال لهم: إن الشيء المخلوق إما أن يكون بدنا من الأبدان، شخصا من الأشخاص، أو يكون نعتا من نعوت الأشخاص. فلا يجوز أن يكون كلام الله شخصا ، لأن الأشخاص يجوز عليها الأكل والشرب والنكاح، ولا يجوز ذلك على كلام الله عز وجل. ولا يجوز أن يكون كلام الله نعتـــًا لشخص مخلوق. لأن النعوت لا تبقى طرفة عين، لأنها لا تحتمل البقاء، وهذا يوجب أن يكون كلام الله قد فني ومضى، فلما لم يجز أن يكون شخصا ولا نعتـــًا لشخص لم يجز أن يكون مخلوقــًا، على أن الشخص يجوز أن تموت، فمن أثبت كلام الله شخصا مخلوقا لزمه أن يجوز الموت على كلام الله عز وجل، ذلك مما لا يجوز. كما لا يجوز أن يكون نعتا لشخص مخلوق. ولو كان مخلوقا في شخص ككلام الإنسان مفعولا فيه كان لا يمكن التفريق بين كلام الله وكلام الخلق إذا كانا مخلوقين في شخص مخلوق، كما لا يجوز أن يكون علمه مخلوقا في شخص مخلوق.
بـــاب ما ذكر من الرواية في القرآن
مسألة  قال أبو بكر: أتيت أنـا والعباس بن عبد العظيم العنبري أبــا عبد ا لله، فسأل العباس بن عبد العظيم أبــا عبد الله أحمد بن حنبل فقال له: قوم ها هنا قد حدَثـوا يقولون: القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق(1)، هؤلاء أضرُّ من الجهمية على الناس، ويلكم، فإن تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم سوء. فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟، فقال: الذي أعتقد وأذهب إليه ولا شك فيه أن القرآن غير مخلوق. ثم قال: سبحان الله ، ومن شك في هذا ؟ ثم تكلم أبو عبد الله مستعظمـًا للشك في ذلك فقال: سبحان الله، أفي الله شك ؟، قال الله تبارك وتعالى:  ألا له الخلق والأمر (2) ، وقال تعالى :  الرحمن علم القرآن ، خلق الإنسان  ففرق بين الإنسان وبين القرآن ، فقال:  علم... خلق ... فجعل يعيدها  علم ... خلق... أي فرق بينهما. قال أبو عبد الله: القرآن من علم الله ، ألا تراه يقول  علم القرآن  والقرآن فيه أسماء الله عز وجل، أي شيء يقولون ؟، ألا يقولون: إن أسماء الله غير مخلوقة؟، لم يزل الله قديرًا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله عز وجل غير مخلوقة، لسنا نشك أن علم الله غير مخلوق ، فالقرآن من علم الله وفيه أسماء الله، فلا نشك أنه غير مخلوق ، وهو كلام الله عز وجل، ولم يزل الله به متكلما. ثم قال: وأي كفر أكفر من هذا، وأي كفر شر من هذا؟، إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق ، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون، إنما يقولون القرآن مخلوق ويتهاونون ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه وهو الكفر، وأنا أكره أن أبوح بهذا لكل أحد، وهم يسألون وأنا أكره الكلام في هذا. فبلغني أنهم يدّعون أني أمسك. فقلت له: فمن قال القرآن مخلوق، ولا يقول: إن أسماء الله مخلوقة، ولا علمه، لم يزد على هذا، أقول هو كافر؟، فقال: هكذا هو عندنا. ثم قال أبو عبد الله: نحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن؟، عندنا فيه أسماء الله، وهو من علم الله، فمن قال إنه مخلوق فهو عندنا كافر. فجعلت أردد عليه. فقال لي العباس وهو يسمع: سبحان الله، أما يكفيك دون هذا؟ فقال أبو عبد الله: بــلى. وذكر الحسين بن عبد الأول قال: سمعت وكيعــًا يقول: من قال القرآن مخلوق فهو مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وذكر محمد بن الصباح البزار قال علي بن الحسين بن سفيان سمعت ابن المبارك يقول: إنا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. قال محمد: يقول نخاف أن نكفر ولا نعلم.
وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري قال: قال لي حماد بن أبي سليمان: بلغ أبا حنيفة المشرك أني منه بريء. قال سليمان ثم قال سفيان: لأنه كان يقول القرآن مخلوق (3) وذكر سفيان بن وكيع قال سمعت عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: أخبرني أبي قال: الكلام الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله القرآن مخلوق. قال: فتاب منه وطاف به في الخلق. قال أبي: فقلت له كيف صرت إلى هذا ؟، قال: خفت والله أن يقوّم علي ، فأعطيته التقية.
وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أن حمادًا – يعني ابن أبي سليمان – بعث إلى أبي حنيفة: إني بريء مما تقول ، إلا أن تتوب. وكان عنده ابن أبي عنبة، قال فقال: أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب.
وذكر عن أبي يوسف قال: ناظرت أبا حنيفة شهرين حتى رجع عن خلق القرآن.
وقال سليمان بن حرب : القرآن غير مخلوق ، وأخبر به من كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل:  ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم (4) وكلام الله ونظره واحد، يعني غير مخلوق.
وذكر حسين بن عبد الأول: قال محمد بن الحسين أبي يزيد الهمداني عن عمرو بن قيس عن أبي قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله  : "فضل كلام الله عز وجل على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". فهذا يثبت أن القرآن كلام الله عز وجل، وما كان كلام الله لم يكن خلقــًا لله، وقد بين الله أن القرآن كلامه بقوله عز وجل :  حتى يسمع كلام الله (5) ودل على ذلك في مواضع من كتابه، وقد قال الله عز وجل مخبرًا أن الله كلم موسى تكليمـًا(6).
وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان".
ومما يبين أن الله عز وجل متكلم وأن له كلامـًا ما رواه عفان قال حماد بن سلمة عن الأشعث الحراني عن شهر بن حوشب قال: فضل كلام الله عز وجل على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وروى يعلى بن المنهال السعدي قال إسحاق بن سليمان الرازي قال الجراح بن الضحاك الكندي عن علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان  قال: قال رسول الله : "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال: "إن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وذلك أنه منه".
وذكر سنيد بن داود قال أبو سفيان عن معمر عن قتادة: قوله تعالى:  ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (7) الآية.
وذكر هارون بن معروف قال جرير بن منصور عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل قال: كنت جارًا لخباب بن الأرتّ فقال لي: يا هذا ، تقرّب إلى الله عز وجل بما استطعت ، ولن يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه.
وروي عن ابن عباس في قوله عز وجل:  قرآنــــًا عربيـًا غير ذي عوج (8) قال: غير مخلوق.
وذكر الليث بن يحيى قال حدثني إبراهيم بن الأشعث قال سمعت مؤمل بن إسماعيل عن الثوري قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر.
وصحت الواية عن جعفر بن محمد أن القرآن لا خالق ولا مخلوق.
وروى ذلك عن عمه زيد بن علي ، وعن جده علي بن الحسين.
ومن قال: إن القرآن غير مخلوق ، وإن من قال بخلقه كافر ، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة، منهم الحمادان والثوري وعبد العزيز بن أبي سلمة ومالك بن أنس والشافعي وأصحابه والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وهشام وعيسى بن يونس وحفص بن غياث وسعد بن عامر وعبد الرحمن بن مهدي وأبو بكر بن عياش ووكيع وأبو عاصم النبيل ويعلى بن عبيد ومحمد بن يوسف وبشر بن المفضل وعبد الله بن داود وسلام بن أبي مطيع وابن المبارك وعلي بن عاصم وأحمد بن يونس وأبو نعيم وقبيصة بن عقبة وسليمان بن داود وأبو عبيد القاسم بن سلام ويزيد بن هارون وغيرهم ، ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك لطال الكلام بذكرهم، وفيما ذكرنا من ذلك مقنع ، والحمد لله رب العالمين. وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ، ولم نجد أحدًا ممن تحمل عنه الآثار ، وتنقل عنه الأخبار ، ويأتم به المؤتمون من أهل العلم ، يقول بخلق القرآن ، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم لا موقع لقولهم ، والحجاج الذي قدمناه في ذلك يأتي على كثير من قولهم ودفع باطلهم ، والحمد لله على قوة الحق حمدًا كثيرًا.
باب الكلام على من وقف في القرآن وقال: لا أقول إنه مخلوق ، ولا أقول إنه غير مخلوق.
يقال لهم: لـمَ زعمتم ذلك وقلتموه ؟، فإن قالوا: قلنا ذلك لأن الله لم يقل في كتابه إنه مخلوق ولا قاله رسول الله ولا أجمع المسلمون عليه. فوقفنا لذلك ، ولم نقل أنه مخلوق ، ولا إنه غير مخلوق. يقال لهم: فهل قال الله عز وجل لكم في كتابه قفوا فيه ولا تقولوا غير مخلوق ، وقال لكم رسول الله  توقفوا عن أن تقولوا إنه غير مخلوق ؟، وهل أجمع المسلمون على التوقف عن القول إنه غير مخلوق ؟، فإن قالوا: نعم بهتوا ، وإن قالوا: لا ، قيل لهم: فلا تقفوا عن أن تقولوا غير مخلوق بمثل الحجة التي ألزمتم أنفسكم التوقف. ثم يقال لهم: ولم أبيتم أن يكون في كتاب الله ما يدل على أن القرآن غير مخلوق؟، فإن قالوا: لم نجده ، قيل لهم: ولم زعمتم أنكم إذا لم تجدوه في القرآن فليس موجودا فيه؟، ثم إنا نوجدهم ذلك ونتلو عليهم الآيات التي احتججنا بها في كتابنا هذا واستدللنا على أن القرآن غير مخلوق كقوله عز وجل:  ألا له الخلق والأمر (1) ، وكقوله:  إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (2) ، وكقوله:  قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي (3) وسائر ما احتججنا في ذلك من آي القرآن.
ويقال لهم: يلزمكم أن تقفوا في كل ما اختلف الناس فيه ولا تقدموا في ذلك على قول، فإن جاز لكم أن تقولوا ببعض تآويل المسلمين إذا دل على صحتها دليل فلم لا قلتم إن القرآن غير مخلوق بالحجج التي ذكرناها في كتابنا هذا قبيل هذا الموضع.
سؤال  فإن قال قائل: حدثونا، أتقولون إن كلام الله في اللوح المحفوظ؟، قيل له: كذلك نقول، لأن الله عز وجل قال:  بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ (4) فالقرآن في اللوح المحفوظ ،وهو في صدور الذين أوتوا العلم ، قال الله عز وجل:  بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (5) وهو متلوّ بالألسنة ، قال الله تعالى:  لا تحرك به لسانك (6). والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة ، محفوظ في صدورنا في الحقيقة ، متلوّ بألسنتنا في الحقيقة ، مسموع لنا في الحقيقة ، كما قال الله عز وجل:  فأجره حتى يسمع كلام الله (7).
سؤال  فإن قال: حدثونا عن اللفظ بالقرآن كيف تقولون فيه ؟، قيل له: القرآن يقرأ في الحقيقة ويتلى ، ولا يجوز أن يقال بلفظ ، لأن القائل لا يجوز له أن يقول: إنه كلام ملفوظ به ، لأن العرب إذا قال قائلهم: لفظت باللقمة من فمي، معناه رميت بها ، وكلام الله عز وجل لا يقال يلفظ به ، وإنما يقال يقرأ ويتلى ، ويكتب ويحفظ. وإنما قال قوم: "لفظنا بالقرآن" ليثبتوا أنه مخلوق ويزينوا بدعتهم وقولهم بخلقه ، فدلسوا كفرهم على من لم يقف على معناهم، فلما وقفنا على معناهم أنكرنا قولهم.
ولا يجوز أن يقال إن شيئا من القرآن مخلوق، لأن القرآن بكماله غير مخلوق.
سؤال  وإن سألونا عن قول الله عز وجل:  قرآنــــًا عربيـًا (8)، قيل لهم: الله عز وجل أنزله وليس مخلوقـا. فإن قالوا: قد قال الله :  وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد (9) والحديد مخلوق، قيل لهم: الحديد جسم موات، وليس يجب إذا كان القرآن منزلا أن يكون جسما مواتا ، ولذلك لا يجب إذا كان القرآن منزلا أن يكون مخلوقا، إن كان الحديد مخلوقا.
ويقال لهم: قد أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ به وهو غير مخلوق ، وأمر أن نستعيد بكلمات الله التامات ، وإذا لم نؤمر أن نستعيذ بمخلوق من المخلوقات وأمرنا أن نستعيذ بكلام الله فقد وجب أن كلام الله غير مخلوق.
باب ذكر الاستواءعلى العرش
إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟، قيل له نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال:  الرحمن على العرش استوى (1) ، وقد قال الله عز وجل:  إليه يصعد الكلم الطيب (2)، وقال:  بل رفعه الله إليه (3)، وقال عز وجل:  يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (4) ، وقال حكاية عن فرعون:  يا هامان ابن لي صرحـًالعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا (5) كذّب موسى عليه السلام في قوله إن الله عز وجل فوق السماوات. وقال عز وجل:  أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض (6). فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال:  أأمنتم من في السماء  لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال:  أأمنتم من في السماء  يعني: جميع السماوات السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات. ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال:  وجعل القمر فيهن نورًا (7) ولم يرد أن القمر بملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم – إذا دعوا – نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش ، كما لا يحطونها – إذا دعوا – إلى الأرض.
سؤال  وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن قول الله عز وجل:  الرحمن على العرش استوى (8): إنه استولى وملك وقهر، وإنه عز وجل في كل مكان. وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في "الاستواء" إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء – وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها – لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها – ولم يـجز عند أحدمن المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية – لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ، ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان ، فلزمهم أنه في بطن مريم، وفي الحشوش والأخلية ، وهذا خلاف الدين ، تعالى الله عن قولهم.
جواب  ويقال لهم: إذا لم يكن مستويا على العرش بمعنى يخص العرش دون غيره – كما قال ذلك أهل ا لعلم ونقلة الآثار وحملة الأخبار – وكان الله عز وجل في كل مكان ، فهو تحت الأرض التي السماء فوقها ، وإذا كان تحت الأرض والأرض فوقه والسماء فوق الأرض، ففي هذا ما يلزمكم أن تقولوا: إن الله تحت التحت والأشياء فوقه ، وإنه فوق الفوق والأشياء تحته، وفي هذا ما يجب أنه تحت ما هو فوقه، وفوق ما هو تحته، وهذا المحال المتناقض، تعالى الله عن افترائكم عليه علوًّا كبيرًا.
دليل آخر  ومما يؤكد أن الله عز وجل مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله  : روى عفان عن حماد بن سلمة قال حدثنا عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن أبيه أن النبي  قال: ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدينا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟، حتى يطلع الفجر.
وروى عبد الله بن بكر قال حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر أنه سمع أبا جعفر أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله  : "إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه ، من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ حتى ينفجر الفجر".
وروى عبد الله بن بكر السهمي قال حدثنا هشام بن أبي عبد الله عن يحيى بن كثير عن هلال بن أبي ميمونة قال: حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: "فقلنا مع رسول الله ، حتى إذا كنا بالكديد – أو قال: بقديد – فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: إذا مضى ثلث الليل – أو قال: ثلثا الليل – نزل الله عز وجل إلى السماء فيقول: من ذا الذي يدعوني أستجيب له، من ذا الذي يستغفرني أغفر له، من ذا الذي يسألني أعطه؟ حتى ينفجر الفجر".
دليل آخر  وقال الله عز وجل:  يخافون ربهم من فوقهم (9)، وقال:  تعرج الملائكة والروح إليه (10) ، وقال:  ثم استوى إلى السماء وهي دخان (11)، وقال:  ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا (12)، وقال :  ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع (13) ، فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض ، فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه.
دليل آخر  وقال عز وجل:  وجاء ربك والملك صفا صفا (14)، وقال:  هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام (15)، وقال:  ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى – إلى قوله – لقد رأى من آيات ربه الكبرى (16)، وقال عز وجل لعيسى بن مريم عليه السلام:  إني متوفيك ورافعك إليّ (17) ، وقال:  وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه (18). وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى السماء. ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون جميعا : يا ساكن العرش ومن خلقهم جميعا، لا والذي احتجب بسبع سماوات.
دليل آخر  وقال الله عز وجل:  وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء (19) وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمة الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو أرسل رسولا وننزل أجناسا لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.
دليل آخر  وقال الله عز وجل:  ثم رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق (20) ، وقال:  ولو ترى إذ وقفوا على ربهم (21)، وقال:  ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم (22)، وقال عز وجل:  وعرضوا على ربك صفـــًا  كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فلم يثبتوا لهم في وصفهم حقيقة، ولا أوجبوا لهم الذي يثبتون له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كل كلامهم يؤل إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي، يريدون بذلك – زعموا – التنزيه ونفي التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي أو التعطيل.
دليل آخر  قال الله عز وجل:  الله نور السماوات والأرض (23) فسمى نفسه نورا، والنور عند الأمة لا يخلو من أن يكون أحد معنيين: إما أن يكون نورا يسمع ، أو نورا يرى. فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى فقد أخطأ في نفيه رؤية ربه وتكذيبه بكتابه وقول نبيه . وروت العلماء عن عبد الله بن عباس أنه قال: تفكروا في خلق الله عز وجل ، ولا تفكروا في الله عز وجل، فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك.
دليل آخر  وروت العلماء عن النبي  أنه قال: إن العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن عمله. وروت العلماء: "أن رجلا أتى النبي  بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها في كفارة، فهل يجوز عتقها؟، فقال لها النبي : أين الله؟، قالت: في السماء. قال: فمن أنــا؟، قالت: أنت رسول الله. فقال النبي : اعتقها فإنها مؤمنة".وهذا يدل على أن الله عز وجل على عرشه فوق السماء.
باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين
قال الله تبارك وتعالى:  كل شيء هالك إلا وجهه (1) ، وقال عز وجل:  ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (2)، فأخبر أن له وجهـًا لا يفنى ولا يلحقه الهلاك. وقال عز وجل:  تجري بأعيننا (3) ، وقال:  واصنع الفلك بأعيننا ووحينا (4) فأخبر عز وجل أن له وجهـًا وعينـًا لا بكيف ولا بحدّ. وقال عز وجل:  فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا (5)، وقال:  ولتصنع على عيني (6)، وقال:  وكان الله سميعا بصيرا (7)، وقال لموسى وهارون:  إنني معكما أسمع وأرى (8) فأخبر عن سمعه وبصره ورؤيته.
ونفت الجهمية أن يكون لله وجه كما قال، وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر وعين، ووافقوا النصارى لأن النصارى لم يثبت الله سميعا بصيرا إلا على معنى أنه عالم، وكذلك قالت الجهمية، ففي الحقيقة قول الجهمية أنهم قالوا: نقول إن الله عالم، ولا نقول سميع بصير على غير معنى عالم، وكذلك قول النصارى، وقالت الجهمية إن الله لا علم له ولا قدرة ولا سمع له ولا بصر، وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب بأسماء الله عز وجل، فأعطوا ذلك لفظا ولم يحصلوا قولا في المعنى، ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا بأن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم، ولكن خوف السيف منعهم من إظهار زندقتهم. وزعم شيخ منهم مقدم فيهم (9) أن علم الله هو الله وأن الله عز وجل علم، فنفي العلم من حيث أو هم أنه أثبته، حتى ألزم أن يقول: يا علم اغفر لي، إذ كان علم الله عنده هو الله، وكان الله على قياسه علما وقدرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: بالله نستهدي، وإياه نستكفي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو الله المستعان. أما بعد فمن سألنا فقال: أتقولون إن الله سبحانه وجها؟، قيل له: نقول ذلك خلافا لما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله عز وجل:  ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (10).
سؤال * فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟، قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل:  يد الله فوق أيديهم (11)، وقوله عز وجل:  لما خلقت بيدي (12). وروي عن النبي  أنه قال: "إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته". فثبتت اليد، وقوله عز وجل:  لما خلقت بيدي  قد جاء في الخبر المأثور عن النبي : إن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده. وقال عز وجل:  بل يداه مبسوطتان (13)، وجاء عن النبي  أنه قال: "كلتا يديه يمين"، وقال عز وجل:  لأخذنا منه باليمين (14). وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل "علمت كذا بيدي" ويعني به النعمة. وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل "فعلت بيدي" ويعني النعمة، بطل أن يكون معنى قوله عز وجل  بيدي النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل "لي عليه يد" بمعنى لي عليه نعمة، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها، وأنه إن رجع في تفسير قول الله عز وجل  بيدي  بنعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن رجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل بيدي يعني نعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه، ولن يجد إليه سبيلا.
سؤال * ويقال لأهل البدع: لم زعمتم أن معنى قوله بيدي نعمتي؟، أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة؟، فلا يجدون ذلك في الإجماع ولا في اللغة. وإن قالوا: قلنا ذلك من القياس، قيل لهم: ومن أين وجدتم في القياس أن قول الله  بيدي  لا يكون معناه إلا نعمتي؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل أن يفسر كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق:  وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (15)، وقال:  لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (16)، وقال:  إنا جعلناه قرآنا عربيا (17)، وقال:  أفلا يتدبرون القرآن (18) ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذ سمعناه، فلما كان من لا يحسن لسان العرب لايحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل. وليس في لسانهم ما ادعوه.
سؤال * وقد اعتل معتل بقول الله عز وجل:  والسماء بنيناها بأيد (19) قالوا: الأيد القوة، أي يكون معنى قوله  بيدي  بقدرتي. وقيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه، آخرها أن (الأيد) ليس بجمع لليد، لأن جمع التي هي نعمة: أيادي: وإنما قال:  لماخلقت بيدي (20) فبطل بذلك أن يكون معنى قوله  بيدي  معنى قوله  بنيناها بأيد . وأيضا فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقردتي، وهذا ناقض لقول مخالفينا وكاسر لمذاهبهم، لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين؟ وأيضا فلو كان الله عز وجل عنى بقوله  لما خلقت بيدي  القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك مزية، والله عز وجل أراد أن يرى فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيده دونه، ولو كان خالقا لإبليس بيديه كما خلق آدم عليه السلام بيديه لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه، وكان إبليس يقول محتجا على ربه : فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما ، فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك وقال له موبخا على استكباره على آدم أن يسجد له:  ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي، استكبرت (21) دل على أنه ليس معنى الآية القدرة إذ كان الله عز وجل خلق الأشياء جميعا بقدرته، وإنما أراد إثبات يدين ، ولم يشارك إبليس آدم عليه السلام في أن خلق بهما. وليس يخلو قوله عز وجل  لما خلقت بيدي  أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين ، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين، أو يكون معناه إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين، لا يوصفنا إلا كما وصف الله عز وجل، فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل عملت بيدي وهو يعني نعمتي، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين، ولا يجوز عند خصومنا أن نعني قدرتين، وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله  بيديَّ  إثبات يدين ليستا جارحيتن ولا قدرتين ولا نعمتين ولا يوصفان إلا بأنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت.
سؤال * وأيضا فلو كان معنى قوله عز وجل  بيديَّ  نعمتي لكان لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفنا، لأن الله عز وجل قد ابتدى إبليس على قولهم كما ابتدى بذلك آدم عليه السلام، وليس يخلو النعمتان أن يكون عني بهما بدن آدم عليه السلام أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم، فلو كان عني بدن آدم فالأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد إذ كانت الأبدان عندهم جنسا واحدا، فقد حصل في جسد إبليس علىمذاهبهم من النعمة ما حصل في جسد آدم عليه السلام وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس، وهذا يوجب أنه لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك، والله عز وجل إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم عليه السلام في ذلك الفضيلة، فدل ما قلناه على أن الله عز وجل لما قال:  لما خلقت بيدي  لم يعن نعمتي.
جواب * ويقال لهم: لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله  يدي  يدين ليستا نعمتين؟ فإن قالوا: لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة. قيل لهم: ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن رجعونا إلى شاهدنا وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا: اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة، قيل لهم: إن علمتم على الشاهد وقضيتهم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على الله عز وجل، وإلا فأنتم لقولكم متأولين ولاعتلالكم ناقضين، وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي. وكذلك يقال لهم: لم تجدوا مدبرًا حكيما إلا إنسانا. ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد ونقضتم عتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد.
سؤال * فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قوله  ما عملت أيدينا  وقوله  لما خلقت بيدي  على المجاز. فهل له: حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة. ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو علىالحقيقة الظاهر، وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة، كذلك قول الله ع وجل  لماخلقت بيدي  على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة، ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة، وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة، بل واجب أن يكون قوله  لما خلقت بيدي  إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذ كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم فعلت بيدي وهو يعني النعمتين.
باب الردّ على الجهمية في نفيهم علم الله تعالى وقدرته وجميع صفاته
قال الله عز وجل:  أنزله بعلمه (1)، وقال:  وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه (2). وذكر (العلم) في خمسة مواضع من كتابه، وقال:  فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله (3) ، وقال:  ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء (4)، وذكر القوة فقال:  أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (5)، وقال:  ذو القوة المتين (6) وقال:  والسماء بنيناها بأيد (7).
وزعمت الجهمية أن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر له ، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك فأتوا بمعناه(8)، لأنهم إذا قالوا لا علم لله ولا قدرة له فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم، وهذا إنما أخذوه من أهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم: إن الله ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.
سؤال * وقد قال رئيس من رؤسائهم – وهو أبو الهذيل العلاف – إن علم الله هو الله فجعل الله عز وجل علما. وألزم فقيل له: إذا قلت إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني، فأبى ذلك، فلزمه المناقضة. واعلموا رحمكم الله أن من قال عالم ولا علم كان مناقضا، كما أن من قال علم ولا عالم كان مناقضا. وكذلك القول في القدرة والقادر، والحياة والحي، والسمع والبصر والسميع والبصير.
جواب * ويقال لهم: خبرونا عمن زعم أن الله متكلم قائل لم يزل آمرًا ناهيا لا قول له ولا كلام ولا أمر له ولا نهي، أليس هو مناقض خارج عن جملة المسلمين؟، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فكذلك من قال: إن الله عالم ولا علم له، كان مناقضا خارجا عن جملة المسلمين. وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن لله علما لم يزل، وقد قالوا: علم الله لم يزل، وعلم الله سابق في الأشياء. ولا يمنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث ونازلة تنزل: كل هذا سابق في علم الله. فمن جحد أن لله علما خالف المسلمين وخرج به عن اتفاقهم.
جواب * ويقال لهم: إذا كان الله مريدا أفله إرادة؟، فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإذا أثبتم مريادا لا إرادة له، فأثبتوا قائلا لا قول له. وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم: فإذا كان المريد لا يكون مريدا إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالما إلا بعلم وأن يكون الله علم كما أثنتم له إرادة.
ويقال لهم: من أين علمتم أن الله عالم؟، فإن قالوا: بقوله عز وجل:  إنه بكل شيء عليم (9)، قيل لهم: وكذلك فقولوا: إن لله علما بقوله:  أنزله بعلم ، وبقوله:  وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، وكذلك قولوا إن له قوة لقوله:  أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة . وإن قالوا: قلنا إن الله عالم لأنه صنع العالم علىما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير، قيل لهم: فلم لا قلتم إن لله علما بما ظهر في العالم من حكمه وآثار تدبيره؟، لأن الصنائع الحكيمة لا تظهر إلا من ذي علم كما لا تظهر إلا من عالم، وكذلك لا تظهر إلا من ذي قوة كما لا تظهر إلا من قادر.
جواب * ويقال لهم: إذا نفيتم علم الله فهلا نفيتم أسماءه؟، فإن قالوا: كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟، قيل لهم: فلا تنفوا العلم والقوة لأنه تبارك وتعالى ذكر ذلك في كتابه.
جواب آخر * ويقال لهم: قد علم الله عز وجل نبيه  الشرائع والأحكام والحلال والحرام ، ولا يجوز أن يعلمه، فكذلك لا يجوز أن يعلم الله نبيه ما لا علم له به، تعالى الله عن قول الجهمية علوًا كبيرًا.
جواب. ويقال لهم: هل يجوز أن تتسق الصنائع الحكمية ممن ليس بعالم؟، فإن قالوا: ذلك محال ولا يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إلا من عالم قادر حي. قيل لهم: وكذلك لا يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إلا من ذي علم وقدرة وحياة، فإن جاز ظهورها لا من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها، لا من عالم قادر حي، وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر.
مسألة * وزعمت المعتزلة أن قول الله عز وجل:  سميع بصير (10) معناه عليم، قيل لهم: فإذا قال عز وجل:  إنني معكما أسمع وأرى (11) وقال:  قد سمع قول التي تجادلك في زوجها  فمعنى ذلك عندكم (علم)؟، فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا: معنى قوله:  أسمع وارى  أعلم وأعلم، إذا كان معنى ذلك العلم.
مسألة * ونفت المعتزلة صفات رب العالمين، وزعمت أن معنى سميع بصير راء: بمعنى عليم، كما زعمت النصارى أن السمع هو بصره، وهو رؤيته، وهو كلامه، وهو علمه وهو ابنه عز وجل وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير: معنى عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟، فإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر فلم لا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟، فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدروا، قيل لهم: ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعا، وإذا لم يجز ذلك بطل قولكم.
بــــاب الكلام في الإرادة
الرد على المعتزلة في ذلك. يقال لهم: ألستم تزعمون أن الله عز وجل لم يزل عالما؟، فمن قولهم: نعم، قيل لهم: فلم لا قلتم إن ما لم يزل عالما أنه يكون في وقت من الأوقات فلم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت وما لم يزل عالما أنه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون وأنه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم. فإن قالوا: ألا نقول إن الله لم يزل مريدا لأن الله مريد بإرادة مخلوقة، يقال لهم: ولم زعمتم أن الله عز وجل مريد بإرادة مخلوقة، وما الفصل بينكم وبين الجهمية في إعمالهم أن الله عالم بعلم مخلوق؟، وإذا لم يجز أن يكون علم الله مخلوقا فما أنكرتم أن لا تكون إرادته مخلوقة. فإن قالوا: لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن ذلك يقتضي أن يكون حدث بعلم آخر كذلك لا إلى غاية. قيل لهم: ما أنكرتم أن لا تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن ذلك يقتضي أن تكون حدثت عن إرادة أخرى ثم كذلك لا إلى غاية. وإن قالوا: لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن ذلك يوجب(1) أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره وذلك لا يجوز. فإن قالوا: لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان. قيل لهم: ولا يجوز أن تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن من لم يكن مريدا حتى أراد لحقه النقصان. وكما لا يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه محدثا مخلوقا.
جواب آخر * ويقال لهم: إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان الله عز وجل الكفر والعصيان وهو لا يريده وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون فلم يؤمنوا، فقد وجب – على قولكم – أن أكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله أن لا يكون كان، لأن الكفر الذي كان – وهو لا يشاء الله عندكم – أكثر من الإيمان الذي كان وهو يشاء، وأكثر ما شاء أن يكون لم يكن، وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله أن يكون كان وما لا يشاء لا يكون.
ويقال لهم: من قولكم أن كثير ما شاء أن يكون إبليس كان، لأن الكفر أكثر من الإيمان وأكثر ما كان هو شاءه، فقد جعلتم مشيئة إبليس أنفذ من مشيئة رب العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ، لأن أكثر ما شاءه كان وأكثر ما كان قد شاءه، وفي هذا إيجاب أنكم قد جعلتم لإبليس مرتبة في المشيئة ليست لرب العالمين، تعالى الله عز وجل عن قول الظالمين علوا كبيرا.
ويقال لهم: أيما أولى بصفة الاقتدار، من إذا شاء أن يكون الشيء كان لا محالة، وإذا لم يرده لم يكن، أو من يرده أن يكون فلا يكون ويكون ما لا يريد؟، فإن قالوا: من لا يكون أكثر ما يريده أولى بصفة الاقتدار كابروا. وقيل لهم: إن جاز لكم ما قلتموه جاز لقائل أن يقول: من يكون ما لا يعلمه أولى بالعلم ممن لا يكون إلا ما يعلمه. وإن رجعوا عن هذه المكابرة وزعموا أن من إذا أراد أمرا كان، وإذا لم يرده لا يكون أولى بصفة الاقتدار لزمهم على مذاهبهم أن يكون إبليس لعنة الله عليه أولى بالاقتدار من الله عز وجل، لأن أكثر ما أراده [ كان ]، وأكثر ما كان قد أراده. وقيل لهم: إذا كان من إذا أراد أمرا كان وإذا لم يرده لم يكن أولى بصفة الاقتدار فيلزمكم أن يكون الله عز وجل إذا أراد أمرا كان وإذا لم يرده لم يكن لأنه أولى بصفة الاقتدار.
جواب * ويقال لهم: أيما أولى بالإلهية والسلطان، من لا يكون إلا ما يعلمه ولا يغيب عن علمه شيء ولا يجوز ذلك عليه، أو من يكون ما لا يعلمه ويعزب عن علمه أكثر الأشياء؟، فإن قالوا: من لا يكون إلا ما يعلمه ولا يعزب عن علمه شيء أولى بصفة الإلهية. قيل لهم: فكذلك من لا يريد كون شيء إلا ما كان، ولا يكون إلا ما يريده، ولا يعزب عن إرادته شيء أولى بصفة الإلهية كما قلتم ذلك في العلم. وإذا قالوا ذلك تركوا قولهم ورجعوا عنه وأثبتوا الله عز وجل مريدا لكل كائن، وأوجبوا أنه لا يريد أن يكون إلا ما يكون.
ويقال لهم: إذا قلتم إنه يكون في سلطانه تعالى ما لا يريد فقد كان إذا في سلطانه ما كرهه. فلا بد من: نعم. يقال لهم: فإذا كان في سلطانه ما يكرهه فما أنكرتم أن يكون في سلطانه ما يأبي كونه، فإن أجابوا إلى ذلك قيل لهم: فقد كانت المعاصي شاء الله أم أبى، وهذه صفة الضعف والفقر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ويقال لهم: أليس مما فعل العباد ما يسخطه تعالى وما يغضب عليهم إذا فعلوه، فقد أغضبوه وأسخطوه؟، فلا بد من (نعم). يقال لهم: فلو فعل العباد ما لا يريد وما يكرهه لكانوا قد أركهوه وهذه صفة القهر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ويقال لهم: أليس قد قال الله تعالى عز وجل:  فعّال لما يريد (2)؟، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فمن زعم أن الله تعالى فعل ما لا يريد وأراد أن يكون من فعله ما لا يكون لزمه أن يكون قد وقع ذلك وهو ساهٍ غافل عنه، أو أن الضعف والتقصير عن بلوغ ما لا يريده لحقه، فلا بد من: نعم. فيقال لهم: فكذلك من زعم أنه يكون في سلطان الله عز وجل ما لا يريده من عبيده لزمه أحد أمرين: إما أن يزعم أن ذلك كان عن سهو وغفلة، أو أن يزعم أن الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده لحقه.
ويقال لهم: أليس من زعم أن الله عز وجل فعل ما لا يعلمه قد نسب الله سبحانه إلى ما لا يليق به من الجهل؟، فلا بد من: نعم، يقال لهم: فكذلك من زعم أن عبد الله فعل ما لا يريد، لزمه أن ينسب الله سبحانه إلى السهو والتقصير عن بلوغ ما يريده، فإذا قالوا: نعم؛ قيل لهم: وكذلك يلزم من زعم أن العباد يفعلون ما لا يعلم الله نسب الله تعالى إلى الجهل. فلا بد من: نعم؛ يقال لهم: فكذلك إذا كان في كون فعل فعله الله وهو لا يريده إيجاب سهو أو ضعف وتقصير عن بلوغ ما يريده، فكذلك إذا كان من غيره ما لا يريده وجب إثبات سهو وغفلة أو ضعف وتقصير عن بلوغ ما يريد، لا فرق في ذلك بين ما كان منه وما كان من غيره.
ويقال لهم: إذا كان في سلطان الله ما لا يريده وهو يعلمه ولا يلحقه الضعف والتقصير عن بلوغ ما يريده، فما أنكرتم أن يكون في سلطانه ما لا يعلمه ولا يلحقه النقصان، فإن لم يجز هذا لم يجز ما قلتموه.
مسألة أخرى * إن قال قائل: لم قلتم إن الله مريد لكل كائن أن يكون، وكل ما لا يكون أن لا يكون؟، قيل له: الدليل على ذلك أن الحجة قد وضحت أن الله عز وجل خلق الكفر والمعاصي – وسنبين ذلك بعد هذا الموضع من كتابنا – وإذا وجب أن الله سبحانه خالق لذلك فقد وجب أنه مريد له، لأنه لا يجوز أن يخلق ما لا يريده.
إنه لا يجوز أن يكون في سلطان الله عز وجل من اكتساب العباد ما لا يريده، كما لا يجوز أن يكون من فعله المجمع على أنه فعله – ما لا يريده - لأنه لو وقع من فعله ما لا يعلمه لكان في ذلك إثبات النقصان، وكذلك القول لو وقع من عباده ما لا يعلمه فكذلك لا يجوز أن يقع من عباده ما لا يريده، لأن ذلك يوجب أن يقع عن سهو وغفلة أو عن ضعف وتقصير أو عن بلوغ ما يريده، كما يجب ذلك لو وقع من فعله – المجمع على أنه فعله – ما لا يريده. وأيضا فلو كانت المعاصي وهو لا يشاء أن تكون لكان قد كره أن تكون وأبى أن تكون، وهذا يوجب أن تكون المعاصي كائنة شاء الله أم أبى، وهذا صفة الضعف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد أوضحنا أن الله لم يزل مريدا على الحقيقة الذي علمه عليها، فإذا كان الكفر مما يكون وقد علم ذلك فقد أراد أن يكون.
ويقال لهم: إذا كان الله عز وجل علم أن الكفر يكون وأراد أن لا يكون، ما علم على خلاف ما علم، وإذا لم يجز ذلك فقد أراد أن يكون ما علم كما علم.
ويقال لهم: لم أبيتم أن يريد الله الكفر الذي علم أنه يكون أن يكون قبيحا فاسدا متناقضا خلافا للإيمان؟، فإن قالوا: لأن مريد السفه سفيه. قيل لهم: ولـمَ قلتم ذلك؟، أوليس قد أخبر الله تعالى عن ابن آدم أنه قال لأخيه:  لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار (3) فأراد أن لا يقتل أخاه لئلا يعذب، وأن يقتله أخوه حتى يبوء بإثم قتله له وسائر آثامه التي كانت عليه، فيكون من أصحاب النار. فأراد قتل أخيه [ له ] الذي هو سفه، ولم يكن بذلك سفيها. فلم زعمتم أن الله سبحانه إذا أراد سفه العباد وجب أن ينسب ذلك إليه؟.
ويقال لهم: قد قال يوسف عليه السلام:  رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه (4) وكان سجنهم إياه معصية، فأراد المعصية التي هي سجنهم إياه دون فعل ما يدعونه إليه، ولم يكن بذلك سفيها. فما أنكرتم من أن لا يجب إذا أراد الباري سبحانه سفه العباد بأن يكون قبيحا منهم – خلافا للطاعة – أن يكون سفيها.
مسألة أخرى * ويقال لهم: أليس من يرى منا جرم المسلمين كان سفيها ، والله سبحانه يراهم ولا ينسب إلى السفه، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فما أنكرتم أن من أراد السفه منا كان سفيها، والله سبحانه يريد سفه السفهاء ولا ينسب إليه أنه عز وجل سفيه، تعالى الله عن ذلك.
مسألة أخرى * ويقال لهم: السفيه منا إنما كان سفيها لما أراد السفه لأنه نهى عن ذلك، ولأنه تحت شريعة من هو فوقه ومن يحد له الحدود ويرسم له الرسوم، فلما أتى ما نهي عنه كان سفيها،ورب العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ليس تحت شريعة ولا فوقه من يحد له الحدود ويرسم له الرسوم، ولا فوقه مبيح ولا حاظر ولا آمر ولا زاجر، فلم يجب إذا أراد ذلك أن يكون قبيحا وأن ينسب إلى السفه، سبحانه وتعالى.
مسألة * ويقال لهم: أليس من خلى بين عبيده وبين إمائه منا يزني بعضهم ببعض وهو لا يعجز عن التفريق بينهم يكون سفيها، ورب العالمين عز وجل قد خلى بين عبيده وإمائه يزني بعضهم ببعض وهو وهو يقدر على التفريق بينهم وليس سفيها، وكذلك من أراد السفه منا كان سفيها ورب العالمين جل وعز يريد السفه وليس سفيها.
مسألة أخرى * ويقال لهم: من أراد طاعة الله منا كان مطيعا، كما أن من أراد السفه كان سفيها، ورب العالمين عز وجل يريد الطاعة وليس مطيعا، فكذلك يريد السفه وليس سفيها.
مسألة أخرى * ويقال لهم: قال الله عز وجل:  ولو شاء الله ما اقتتلوا (5) فأخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا ما اقتتلوا، قال:  ولكن الله يفعل ما يريد  من القتال، فإذا وقع القتال فقد شاء، كما أنه لما قال:  ولو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه (6) فقد أوجب أن الرد لو كان إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر وأنهم إذ لم يردهم إلى الدنيا لم يعودوا، فكذلك لو شاء أن لا يقتتلوا لما اقتتلوا، وإذا اقتتلوا فقد شاء أن يقتتلوا.
باب الكلام في تقدير أعمال العباد والاستطاعة، والتعديل ، والتجويز.
يقال للقدرية: هل يجوز أن يعلم الله عز وجل عباده شيئا لا يعلمه؟، فإن قالوا: لا يعلم الله عباده شيئا إلا وهو به عالم، قيل لهم: فكذلك لا يقدرهم على شيء إلا وهو عليه قادر. فلا بد من الإجابة إلى ذلك. يقال لهم: فإذا قررهم على الكفر فهو قادر أن يخلق الكفر لهم، وإذا قدر على خلق الكفر لهم فلم أثبتم أن يخلق كفرهم فاسدا متناقضا باطلا، وقد قال الله تعالى:  فعال لما يريد (1)، وإذا كان الكفر مما أراد فقد فعله وقدره. ويرد عليهم في اللطف ، يقال لهم: أليس الله عز وجل قادر أن يفعل بخلقه من بسط الرزاق ما لو فعله بهم لبغوا، وأن يفعل بهم ما لو فعله بالكفار لكفروا، كما قال:  ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض (2) وكما قال:  ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة (3) الآية. فلا بد من : نعم. يقال لهم: فما أنكرتم من أنه قادر أن يفعل بهم لطفا لو فعله بهم لآمنوا أجمعون، كما أنه قادر أن يفعل بهم أمرا لو فعله بهم كفروا كلهم.
مسألة أخرى * ويقال لهم: أليس قد قال الله عز وجل:  ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (4):  ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا (5)، وقال:  فاطلع فرآه في سواء الجحيم – يعني في وسط الجحيم – قال تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين (6) ما الفضل الذي فعله بالمؤمنين الذي لو لم يفعله لاتبعوا الشيطان، ولو لم يفعله ما زكى منهم من أحد أبدا، وما النعمة التي لو لم يفعلها لكان المحضرين؟، وهل ذلك شيء لم يفعله بالكافرين وخص به المؤمنين؟، فإن قالوا: نعم، تركوا قولهم وأثبتوا لله عز وجل نعما وفضلا على المؤمنين ابتدأهم بجميعه ولم ينعم بمثله على الكافرين وصاروا إلى القول بالحق. وإن قالوا: قد فعل الله ذلك أجمع بالكافرين لما فعله بالمؤمنين فعل لهم، فإذا كان الله عز وجل قد فعل ذلك أجمع بالكافرين فلم يكونوا زاكين وكانوا للشيطان متبعين وفي النار محضرين. وهل يجوز أن يقول للمؤمنين لولا أني خلقت لكم الأيدي والأرجل لكنتم للشيطان متبعين، وهو قد خلق الأيدي والأرجل للكافرين، وكانوا للشيطان متبعين. فإن قالوا: لا يجوز ذلك، قيل لهم: وكذلك لا يجوز ما قلتموه. وهذا يبين أن الله عز وجل اختص المؤمنين من النعم والتوفيق والتسديد بما لم يعط الكافرين وفضل عليهم المؤمنين.
مسألة أخرى * ويقال لهم أخبرونا عن قوة الإيمان أليست فضلا من الله عز وجل؟، فلا بد من: نعم، يقال لهم: هل يقدر الله علىتوفيق يوفق به الكافرين حتىيكونوا مؤمنين؟، فإن قالوا: لا، نطقوا بتعجيز الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإن قالوا: نعم يقدر على ذلك، ولو فعل بهم التوفيق لآمنوا، تركوا قولهم وقالوا بالحق.
مسألة * وإن سألوا عن قول الله عز وجل:  وما الله يريد ظلما للعباد (7) وعن قوله:  وما الله يريد ظلما للعالمين (8). قيل لهم: معنى ذلك أنه لا يريد أن يظلمهم لأنه قال:  وما الله يريد ظلما  لهم، ولم يقل: لا يريد ظلم بعضهم لبعض، لم يرد أن يظلمهم، وإن كان أراد ظلم بعضهم لبعض فلم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يتظالموا.
مسألة * وإن سألوا عن قول الله تعالى:  ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت (9) قالوا: والكفر متفاوت، فكيف يكون من خلق الله؟ والجواب عن ذلك أنه عز وجل قال:  خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الله من تفاوت. فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (10) فإنما عنى حينئذ: وما ترى في السماوات من فطور، لأنه ذكر خلق السماوات ولم يذكر الكفر، وإذا كان هذا على ما قلنا بطل ما قالوا، والحمد لله رب العالمين.
جواب * ويقال لهم: هل تعرفون لله عز وجل نعمة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه خص بها دون أبي جهل ابتداء؟، فإن قالوا: لا، فحش قولهم، وإن قالوا: نعم، تركوا مذاهبهم، لأنهم لا يقولون إن الله خص المؤمنين في الابتداء بما لم يخص به الكافرين.
مسألة * وإن سألوا عن قول الله عز وجل:  وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا (11) فقالوا: هذه الآية تدل على أن الله عز وجل لم يخلق الباطل. والجواب عن ذلك أن الله عز وجل أراد تكذيب المشركين الذين قالوا: لا حشر ولا نشور ولا إعادة، فقال تعالى: ما خلقت ذلك وأنا لا أثيب من أطاعني ولا أعاقب من عصاني – كما ظن الكافرون أنه لا حشر ولا نشور ولا ثواب ولا عقاب الا تراه، قال:  ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار (12) وبين ذلك بقوله:  أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (13) أي لا نسوي بينهم في أن نفيهم أجميعن، ولا نعيدهم فيكون سبيلهم سبيلا واحدا.
مسألة في التكليف * ويقال لهم: أليس قد كلف الله عز وجل الكافرين أن يستمعوا الحق ويقبلوه ويؤمنوا بالله؟، فلا بد من: نعم، يقال لهم: فقد قال الله عز وجل:  ما كانوا يستطيعون السمع (14) وقال:  وكانوا لا يستطيعون سمعا (15) وقد كلفهم استماع الحق.
جواب * ويقال لهم: أليس قد قال الله عز وجل:  يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (16) أليس قد أمرهم عز وجل بالسجود في الآخرة؟، وجاء في الخبر أن المنافقين يجعل في أصلابهم كالصفائح فلا يستطيعون السجود، وفي هذا ما نقوله من أنه لا يجب لهم على الله عز وجل إذا أمرهم أن يقدرهم، وهو بطلان قول القدرية.
مسألة في إيلام الأطفال * ويقال لهم: أليس قد آلم الله عز وجل الأطفال في الدنيا بآلام أوصلها إليهم كنحو الجذام الذي يقطع أيديهم وأرجلهم وغير ذلك مما يؤلمهم به، وكان ذلك سائغا جائزا؟، فإذا قالوا: نعم: قيل لهم:فإذا كان هذا عدلا فما أنكرتم أن يؤلمهم في الآخرة ويكون ذلك منه عدلا؟، فإن قالوا: آلمهم في الدنيا لتعتبر بهم الآباء، قيل لهم: فإذا فعل ذلك بهم في الدنيا ليعتبر بهم الآباء وكان ذلك منه عدلا فلم لا يؤلم أطفال الكافرين في الآخرة ليغيظ بذلك آبائهم ويكون ذلك منه عدلا؟، وقد قيل في الخبر: إن الأطفال تؤجج لهمنار يوم القيامة ثم يقال لهم اقتحموها فمن اقتحمها أدخل الجنة، ومن لم يقتحمها أدخله النار.
مسألة * وقد قيل في الأطفال: وروي عن النبي  أن بني إسماعيل صغارهم في النار.
جواب * ويقال لهم: أليس قد قال الله تعالى  تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب  وأمره مع ذلك بالإيمان، فأوجب عليه أن يعلم أنه لا يؤمن، وإن الله صادق في إخباره عنه أنه لا يؤمن، وأمره مع ذلك أن يؤمن ولا يجتمع الإيمان والعلم بأنه لا يكون، ولا يقدر القادر على أن يؤمن وأن يعلم أنه لا يؤمن. وإذا كان هذا هكذا فقد أمر الله سبحانه أبا لهب بما لا يقدر عليه، لأنه أمره أن يؤمن وأنه يعلم أنه لا يؤمن.
مسألة * ويقال لهم: أليس أمر الله عز وجل بالإيمان من علم أنه لا يؤمن؟، فمن قولهم: نعم، يقال لهم: فأنتم قادرون على الإيمان، ويتأتى لكم ذلك؟، فإن قالوا: لا، وافقوا، وإن قالوا: نعم، زعموا أن العباد يقدرون على الخروج من علم الله ، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.
الرد على المعتزلة * قال أبو الحسن الأشعري: ويقال لهم: أليس المجوس أثبتوا أن الشيطان يقدر على الشر الذي لا يقدر الله عز وجل عليه، فكانوا بقولهم هذا كافرين؟، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فإذا زعمتم أن الكافرين يقدرون على الكفر والله عز وجل لا يقدر عليه فقد زدتم على المجوس في قولهم، لأنكم تقولون معهم إن الشيطان يقدر على الشر والله لا يقدر عليه، وهذا مما يبينه الخبر عن رسول الله : "إن القدرية مجوس هذه الأمة". وإنما صاروا مجوس هذه الأمة لأنهم قالوا بقول المجوس.
مسألة * وزعمت القدرية أنا نستحق اسم القدر لأنا نقول: إن الله عز وجل قدر الشر والكفر، فمن يثبت القدر كان قدريا دون من لم يثبته. يقال لهم: القدري هو من يثبت القدر لنفسه دون ربه عز وجل وأنه يقدر أفعاله دون خالقه، وكذلك هو في اللغة، لأن الصائغ هو من زعم أنه يصوغ، دون من يقول إنه يصاغ له، والنجار هو من يضيف النجارة إلى نفسه، دون من يزعم أنه يتجر له. فلما كنتم تزعمون أنكم تقدرون أعمالكم وتفعلونها دون ربكم وجب أن تكونوا قدرية، ولم نكن نحن قدرية لأنا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربنا عز وجل ولم نقل إنا نقدرها دونه وقلنا إنها تقدر لنا.
مسألة في الختم * يقال لهم: أليس قد قال الله عز وجل :  ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (17) وقال عز وجل:  من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (18) فخبرونا عن الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، أتزعمون أنه هداهم وشرح للإسلام صدورهم وأضلهم ؟، فإن قالوا: نعم، تناقض قولهم ، كيف القفل الذي قال الله عز وجل :  أم على قلوب أقفالهم (19) مع الشرح، والضيق مع السعة والهدي مع الإضلال، إن كان هذا جاز أن يجتمع التوحيد والإلحاد الذي هو ضد التوحيد، والكفر والإيمان معا في قلوب واحد، وإن لم يجز هذا لم يجز ما قلتموه . فإن قالوا: الختم والضيق والضلال لا يجوز أن يجتمع مع شرح الله الصدر، قيل لهم: وكذلك الهدي لا يجتمع مع الضلال، وإذا كان هكذا فما شرح الله صدور الكافرين للإيمان بل ختم على قلوبهم وأقفالها عن الحق وشد عليها، كما دعا نبي الله موسى عليه السلام على قومه فقال:  ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال –الله عز وجل – أجيبت دعوتكما (20) وقال عز وجل يخبر عن الكافرين أنهم قالوا:  قلوبنا في أكنة مما تدعون إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب (21) فإذا خلق الله الأكنة في قلوبهم والقفل والزيغ بأن الله تعالى قال:  فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (22) والختم وضيق الصدر ثم أمرهم بالإيمان الذي علم أنه لا يكون فقد أمرهم بما لا يقدرون عليه وإذاخلق الله في قلوبهم ما ذكرناه من الضيق عن الإيمان، فهل الضيق عن الإيمان إلا الكفر الذي في قلوبهم؟، وهذا يبين أن الله خلق كفرهم ومعاصيهم.
جواب * ويقال لهم: قال الله عز وجل:  ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (23) وقال يخبر عن يوسف:  ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه (24) فحدثونا عن ذلك التثبيت والبرهان ، هل فعله الله عز وجل بالكافرين أو ما هو مثله ؟، فإن قالوا: لا، تركوا القول بالقدر وإن قالوا: نعم، قيل لهم: فإذا كان لم يركن إليهم من أجل التثبيت فيجب لو كان فعل ذلك بالكافرين أن يثبتوا عن الكفر، وإذا لم يكونوا عن الكفر مفترقين فقد بطل أن يكون فعل بهم مثل ما فعل بالنبي  من التثبيت الذي لم يفعله به لم يركن إلى الكافرين.
مسألة في الآجال * يقال لهم: أليس قد قال الله عز وجل :  فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (25) وقال:  ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها (26)؟، فلا بد من : نعم، يقال لهم: فخبرونا عن من قتله قاتل ظلما أتزعمون أنه قتل في أجله أو بأجله؟، فإن قالوا: نعم، وافقوا وقالوا بالحق وتركوا القدر. وإن قالوا: الوقت الذي علم الله أنه لو لم يقتل لتزوج امرأة علم أنها امرأته، وإن لم يبلغ إلى أن يتزوجها، وإذا كان في معلوم الله أنه لو لم يقتل وبقي لكفر، أن يكون النار داره، وإذا لم يجز هذا لم يجز أن يكون الوقت الذي لم يبلغ إليه أجلاله، على أن هذا القول لا يفيد لقول الله عز وجل:  فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
مسألة في الأرزاق * ويقال لهم: خبرونا عن من اغتصب طعاما فأكله حراما هل رزقه الله ذلك الحرام؟، فإن قالوا: نعم، تركوا القدر، وإن قالوا: لا، قيل لهم: فمن أكل جميع عمره الحرام فما يزقه الله شيئا اغتذى به جسمه؟، ويقال لهم: فإذا كان غيره يغتصب له ذلك الطعام ويطعمه إياه إلى أن مات فرازق هذا الإنسان عندكم غير الله، وفي هذا إقرار منهم أن للخلق رازقين: أحدهما يرزق الحلال والآخر يرزق الحرام، وأن الناس تنبت لحومهم وتشتد عظامهم، والله غير رازق لهم ما اغتذوا به. وإذا قلتم: إن الله لم يرزقه الحرام لزمكم أن الله لم يغذه به ولا جلعه قواما لجسمه وأن لحمه وجسمه قام وعظه اشتد بغير الله عز وجل وهو من رزقه الحرام، وهذا كفر عظيم إن احتملوا.
مسألة في الهدى * يقال للمعتزلة: قد قال الله عز وجل:  الــم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (27) فلا بد من: نعم. يقال لهم: أوليس قد ذكر الله عز وجل القرآن فقال:  والذين لا يؤمنون في آذانهم وقروهو عليهم عمى (28) فخبر أن القرآن على الكافرين عمى، فلا بد من: نعم، ويقال لهم: فهل يجوز أن يكون من خبر الله عز وجل أن القرآن له هدى هو عليه عمى؟، فلا بد من: لا، يقال لهم: فكما لا يجوز أن يكون القرآن عمي على من أخبر الله أنه له هدى كذلك لا يجوز أن يكون القرآن هدى لمن أخبر الله أنه عليه عمي.
مسألة أخرى * ثم يقال لهم: إذا جاز أن يكون دعاء الله إلى الإيمان هدى لمن قبل ولمن لم يقبل، فما أنكرتم دعاء إبليس إلى الكفر إضلالا لمن قبل ولمن لم يقبل، فإن كان دعاء إبليس إلى الكفر إضلالا للكافرين الذين قبلوا عنه دون المؤمنين الذين لم يقبلوا عنه فما أنكرتم أن دعاء الله عز وجل إلى الإيمان هدى للمؤمنين الذين قبلوا عنه دون الكافرين الذين لم يقبلوا عنه، وإلا فما الفرق بين ذلك؟.
مسألة أخرى * ويقال لهم: أليس قال الله عز وجل:  يضل به كثيرا (29)؟، فهل يدل قوله:  يضل به كثيرا  على أنه لم يضل الكل، لأنه لو أراد الكل لقال يضل به الكل، فلما قال:  يضل به كثيرا  علمنا أنه لم يضل الكل، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فما أنكرتم أن قوله:  ويهدي به كثيرا (30) دليل على أنه لم يرد الكل، لأنه لو أراد الكل لقال ويهدي به الكل، فلما قال:  ويهدي به كثيرا  علمنا أنه لم يهد الكل، وفي هذا إبطال قولكم إن الله هدى الخلق أجمعين.
مسألة أخرى * ويقال لهم: ما معنى قول الله عز وجل:  ويضل الله الظالمين (31)؟، فإن قالوا: معنى ذلك أنه يسميهم ضالين ويحكم عليهم بالضلال؛ قيل لهم: أليس خاطب الله العرب بلغتهم فقال:  بلسان عربي مبين (32)، وقال:  وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (33)، فلا بد من: نعم. يقال لهم: فإذا كان أنزل الله القرآن بلسان العرب فمن أين وجدتم في لغة العرب أن يقال: أضل فلان فلانا، أي سماه ضالا؟، فإن قالوا: وجدنا القائل يقول: إذا قال رجل لرجل ضال "قد ضللته" ، قيل لهم: قد وجدنا العرب يقولون "ضلل فلان فلانا" إذا سماه ضالا، ولم نجدهم يقولون: "أضل فلان فلانا" بهذا المعنى، فلما قال الله عز وجل:  ويضل الله الظالمين (34) لم يجز أن يكون ذلك معنى ذلك الاسم والحكم إذا لم يجز في العرب أن يقال: "أضل فلان فلانا" إذا سماه ضالا بطل تأويلك إذ كان خلاف لسان العرب.
ويقال لهم: أليس قد قال الله تعالى:  من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (35) وقال عز وجل:  كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم (36) فذكر أنه لا يهديهم، وقال:  والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (37)فجعل الدعاء عاما والهدي خاصا، وقال:  لا يهدي القوم الكافرين (28) فإذا أخبر الله عز وجل أنه لا يهدي القوم الكافرين فكيف يجوز لقائل أن يقول أن يقول إنه هدى الكافرين مع أخباره أنه لا يهديهم، ومع قوله:  إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء (29) ومع قوله:  ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء (40) ومع قوله:  ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (41)، وإن جاز أن يقال هذا جاز أن يقال أضل المؤمنين، مع قوله:  من يهد الله فهو المهتدي (42) ومع قوله:  هدى للمتقين (43) فإن لم يكن ذلك فما أنكرتم أنه لا يجوز أن يهدي الكافرين مع قوله:  لا يهدي القوم الكافرين (44) ومع سائر الآيات التي طالبناكم بها.
مسألة * تسألوننا عنها، تقولون: أليس قد قال الله عز وجل:  شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات (45) فما أنكرتم أن يكون القرآن هدى للكافرين والمؤمنين؟، قيل لهم: الآية خاصة، لأن الله عز وجل قد بين أنه  هدى للمتقين  وخبرنا أنه  لا يهدي القوم الكافرين (46) والقرآن لا يتناقض، فوجب أن يكون قوله:  هدى للناس  أراد المؤمنين دون الكافرين.
سؤال * فإن قال قائل: أليس قدقال الله عز وجل:  إنما تنذر من اتبع الذكر (47) وقال:  إنما أنت منذر من يخشاها (48) وقد أنذر النبي  من اتبع الذكر ومن لم يتبع، ومن خشي ومن لم يخش. قيل له: نعم، فإن قالوا: فما أنكرتم أن يكون قوله:  هدى للمتقين  أراد به هدى لهم ولغيرهم. قيل لهم: إنمعنى قول الله عز وجل  إنما تنذر من اتبع الذكر  إنما أراد به بإنذارك من اتبع الذكر، وقوله:  إنما أنت منذر من يخشاها  أراد أن الإنذار ينتفع به من يخشى الساعة ويخاف العقوبة فيها، وأن الله عز وجل قد أخبر في موضع آخر من القرآن أنه أنذر الكافرين. فقال:  إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (49) وهذا خبر عن الكافرين، وقال:  وأنذر عشيرتك الأقربين (50)، وقال:  أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (51) وهذا خطاب للكافرين. فلما أخبر الله عز وجل في آيات من القرآن أنه أنذر الكافرين كما أخبر الله في آيات أنه أنذر من يخشاها وأنذر من اتبع الذكر وجب بالقرآن أن الله قد أنذر المؤمنين والكافرين، فلما أخبرنا الله أنه  هدى للمتقين  وعمي على الكافرين وخبرنا أنه لا يهدي الكافرين وجب أن يكون القرآن هدى للمؤمنين دون الكافرين.
سؤال * إن سأل سائل عن قول الله عز وجل:  وأما ثمود فهديناهم ، فاستحبوا العمى على الهدى (52) فقال: أليس ثمود كانوا كافرين وقد أخبر الله أنه هداهم؟، قيل له: ليس الأمر كما ظننت، والجواب في هذه الآية على وجهين: أحدهما أن ثمود على فريقين، كافرين ومؤمنين وهم الذين خبر أنه أنجاهم مع صالح بقوله عز وجل:  نجينا صالحا والذين آمنوا معه (53)فالذين عنى الله عز وجل من ثمود أنه هداهم هم المؤمنون دون الكافرين، لأن الله عز وجل قد بين لنا في القرآن أنه لا يهدي الكافرين، والقرآن لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا، فإذا أخبرنا في موضع أنه لا يهدي الكافرين، ثم خبر في موضع أنه هدى ثمود علمنا أنه إنما أراد المؤمنين من ثمود دون الكافرين. والوجه الآخر أن الله عز وجل عنى قوما من ثمود كانوا مؤمنين ثم ارتدوا، فأخبر أنه هداهم فاستحبوا بعد الهداية الكفر بعد الإيمان، وكانوا في حال هداهم مؤمنين. فإن قال قائل معترضا في الجواب الأول: كيف يجوز أن يقول  فهديناهم  ويعني المؤمنين من ثمود، ويقول  فاستحبوا  يعني الكافرين منهم وهم غير مؤمنين؟، يقال له: هذا جائز في اللغة التي ورد بها القرآن أن يقول  فهديناهم  ويعني المؤمنين من ثمود، ويقال  فاستحبوا  يعني الكافرين منهم. وقد ورد القول بمثل هذا، قال الله عز وجل:  وما كان الله لعذبهم وأنت فيهم (54) يعني الكفار، ثم قال:  وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون  يعني المؤمنين. ثم قال:  وما لهم ألا يعذبهم الله (55) يعني الكافرين. ولا خلاف عند أهل اللغة في جواز الخطاب بهذا أن يكون ظاهره لجنس والمراد جنسان، فبطل ما اعترض به المعترض ودل على جهله.
باب ذكر الروايات في القدر
روى معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة قال حدثنا سليمان الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: "أخبرنا رسول الله  - وهو الصادق المصدوق – أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه في أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك، قال: فيؤمر بأربع كلمات يقال: اكتب أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح ، قال: فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل عمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها". وروى معاوية بن عمرو قال حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي  قال: "احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم، أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه، أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة. قال: فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلماته، تلومني على عمل كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السماوات؟، قال: فحج آدم موسى". وروى حديث "حج آدم موسى" مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ، وهذا يدل على بطلان قول القدرية الذين يقولون إن الله عز وجل لا يعلم الشيء حتى يكون، لأن الله عز وجل إذا كتب ذلك وأمر بأن يكتب فلا يكتب شيئا لا يعلم، جل عن ذلك وتقدس. وقال الله عز وجل:  وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (1) وقال:  وما من دابة في الأرض إلاعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها (2) وقال:  أحصاه الله ونسوه (3) وقال:  لقد أحصاهم وعدهم عدا (4) وقال:  أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدد (5) وقال:  بكل شيء عليم (6) ، فذلك يبين أنه يعلم الأشياء كلها، وقدأخبر الله عز وجل أن الخلق يبعثون ويحشرون، وأن الكافرين في النار يخلدون، وأن الأنبياء والمؤمنين في الجنان يدخلون، وأن القيامة تقوم – ولم تقم بعد – فذلك يدل على أن الله تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون، وقد قال الله في أهل النار:  ولو ردوا لعادوا (7) فأخبر عما لا يكون أن لو كان كيف يكون، وقال:  فما بال القرون الأولى، قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (8) ، ومن لا يعلم الشيء قبل كونه لايعلمه بعد تقضيه، تعالى عن قول الظالمين علوا كبيرا. وروى معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة عن سليمان الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن ربيعة قال: كنا عند عبد الله (9)، قال فذكروا رجلا فذركوا من خُلقه، فقال القوم: أما له من يأخذ على يديه؟، قال عبد الله: أرأيتم لو قطع رأسه أكنتم تستطيعون أن تجعلوا له بدلا؟، قالوا: لا، قال عبد الله: إن النطفة إذا وقعت في المرأة مكثت أربعين يوما ثم انحدرت دما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث ملك فيقول: اكتب أجله،وعمله، ورزقه ، وأثره، وخلقه، وشقي، أو سعيد. وإنكم لن تستطيعون أن تغيروا خُلقه حتى تغيروا حلقه.
وروى معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة عن منصور عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة بقيع الغرقد، فأتى النبي  فقعد ونحن حوله، ومعه مخصرة له، فنكت بها ورفع رأسه، فقال: ما منكم من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة يصير إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فيصير إلى الشقاوة؟، فقال: اعملوا، فكل ميسر، أما أهل الشقاوة فميسرون لعمل الشقاوة، وأما أهل السعادة فميسرون لعمل السعادة. ثم قال:  فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى (10) .
وروى موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد قال أخبرنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة: إن رسول الله  قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وإنه مكتوب في الكتاب من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات فدخل الجنة.
وهذه الأحاديث تدل على أن الله عز وجل علم ما يكون أنه يكون وكتبه، وأنه قد كتب أهل الجنة وأهل النار وخلقهم فريقين: فريقا في الجنة وفريقا في السعير، وبذلك نطق كتابه إذ يقول:  فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة (11) وقال:  فريق في الجنة وفريق في السعير (12) وقال:  فمنهم شقي وسعيد (13) فخلق الله الأشقياء للشقاوة والسعداء للسعادة، وقال عز وجل:  ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس (14).
وروي عن النبي : إن الله عز وجل مسح ظهر آدم فأخرج ذريته من ظهره كأمثال الذر، ثم قررهم بوحدانيته، وأقام الحجة عليهم لأنه قال:  وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا – قال الله عز وجل – أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (15) فجعل تقريرهم بوحدانيته لما أخرجهم من ظهر آدم حجةعليهم إذا أنكروا في الدنيا ما كانوا عرفوه في الذرء الأول، ثم من بعد الإقرار جحدوه. وروي عن النبي  أنه قبض قبضة للجنة وقبض قبضة للنار مير بعضا من بعض، فغلبت الشقوة على أهل الشقوة والسعادة على أهل السعادة، قال الله عز وجل مخبرا عن أهل النار أنهم:  قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (16) وكل ذلك بأمر قد سبق في علم الله عز وجل ونفذت فيه إرادته وتقدمت فيه مشيئته. وروى معاوية بن عمرو قال زائدة قال طلحة بن يحيى القرشي: حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين " أن النبي  دعي إلى جنازة غلام من الأنصار ليصلي عليه، فقالت عائشة: طوبى لهذا يا رسول الله، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءا ولم يدركه. قال: أوغير ذلك يا عائشة، إن الله عز وجل قد جعل للجنة أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وللنار أهلا جعلهم لها وهم في أصلاب آبائهم". وهذا يبين أن السعادة قد سبقت لأهلها، والشقاء قد سبق لأهله. وقال النبي : "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له".
دليل آخر  وقد قال الله عز وجل:  من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17). وقال:  يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (18) فأخبر أنه يضل ويهدي. وقال:  ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (19) فأخبرنا أنه فعال لما يريد. وإذا كان مما أراده فقد فعله وقدره وأحدثه وأنشأه واخترعه، وقد بين ذلك بقوله:  أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون (20)، فلو كانت عبادتهم للأصنام من أعمالهم كان ذلك مخلوقا لله وقد قال الله تعالى:  جزاء بما كانوا يعملون (21) يريد أنه يجازيهم على أعمالهم، فكذلك إذا ذكر عبادتهم للأصنام وكفرهم بالرحمن، ولو كان مما قدروه وفعلوه لأنفسهم لكانوا قد فعلوا وقدروا ما خرج عن تقدير ربهم وفعله، وكيف يجوز أن يكون لهم من التقدير والفعل والقدرة ما ليس لربهم؟، من زعم ذلك فقد عجّز الله عز وجل، تعالى عن قول المعجزين له علوا كبيرا. ألا ترى أن من زعم أن العباد يعلمون ما لا يعلمه الله عز و جل لكان قد أعطاهم من العلم ما لم يدخل فى علم الله , وجعلهم لله نظراء, فكذلك من زعم أن العباد يفعلون ويقدرون ما لم يقدره الله , ويقدرون على ما لم يقدر عليه , فقد جعل لهم من السلطان والقدرة والتمكن ما لم يجعله للرحمن,تعالى الله عن قول أهل الزور والبهتان والإفك والطغيان علوا كبيرا .
باب الكلام في الشفاعة والخروج من النار
ويقال لهم: قد أجمعوا المسلمون أن لرسول الله شفاعة، فلمن الشفاعة؟، هي للمذنبين المرتكبين الكبائر ، أو للمؤمنين المخلصين؟، فإن قالوا: للمذنبين المرتكبين الكبائر وافقوا، وإن قالوا للمؤمنين المبشرين بالجنة الموعودين بها ، قيل لهم: فإذا كانوا بالجنة موعودين وبها مبشرين والله عز وجل لا يخلف وعده، فما معنى الشفاعة لقوم لا يجوز عندكم أن يدخلهم الله جناته ؟ ومن قولكم قد استحقوها على الله واستوجبوها عليه ، وإذا كان الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة كان تأخيرهم عن الجنة ظلم، وإنما يشفع الشفعاء إلى الله عز وجل في أن لا يظلم على مذاهبكم، تعالى الله عن افترائكم عليه علوا كبيرا. فإن قالوا: يشفع النبي  إلى الله عز وجل في أن يزيدهم من فضله لا في أن يدخلهم جناته ، قيل لهم: أوليس قد وعدهم الله ذلك، فقال:  ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله (1) والله عز وجل لا يخلف وعده، فإنما يشفع إلى الله عز وجل عندكم في أن لا يخلف وعده ، وهذا جهل من قولكم ، وإنما الشفاعة المعقولة فيمن استحق عقابا أن يوضع عنه عقابه ، أو فيمن لم يعده شيئا أن يتفضل به عليه ، فأما إذا كان الوعد بالتفضل سابقا فلا وجه لهذا.
سؤال  فإن سألوا عن قول الله عز وجل:  ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (2), فالجواب عن ذلك إلا لمن ارتضى فهم يشفعون له ، وقد روي أن شفاعة النبي  لأهل الكبائر، وروي عن النبي  أن المذنبين يخرجون من النار.
باب الكلام في الحوض
وأنكرت المعتزلة الحوض وقد روي عن النبي  من وجوه كثيرة، وروي عن أصحابه بلا خلاف، وروى عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن أنس بن مالك أنه ذكر الحوض عند عبيد الله بن زياد فأنكره ، فبلغ أنسا فقال لا جرم والله لأفعلن به ، قال فأتاه فقال ما ذكرت من الحوض ؟، قال عبيد الله: هل سمعت رسول الله  يذكره؟، قال: سمعت النبي  أكثر من كذا وكذا مرة يقول ما بين طرفيه يعني الحوض ما بين أيلة ومكة أو ما بين صنعاء ومكة ، وأن آنيته أكثر من نجوم السماء . وروى أحمد بن حمد الله بن يونس قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن سفيان قال: سمعت رسول الله  يقول: "أنا فرطكم على الحوض" في أخبار كثيرة.
باب الكلام في عذاب القبر
وأنكرت المعتزلة عذاب القبر وقد روي عن النبي  من وجوه كثيرة ، وروي عن أصحابه رضي الله عنهم ، وما روي عن أحد منهم أنه أنكره ونفاه وجحده فوجب أن يكون إجماعا من أصحاب النبي  . وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله  : تعوذ بالله من عذاب القبر. وروى أحمد بن إسحاق الحضرمي قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا موسى بن عقبة، قال: حدثني أم خالد بنت سعيد بن العاص أنها "سمعت رسول الله  يتعوذ من عذاب القبر"، وروى أنس بن مالك عن النبي  أنه قال: "لولا أن لا تدافنوا ، لسألت الله عز وجل أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني".
دليل آخر  ومما يبين عذاب الكافرين في القبور قول الله عز وجل:  النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب (1) فجعل عذابهم يوم تقوم الساعة بعد عرضهم على النار في الدنيا غدوا وعشيا. وقال  سنعذبهم مرتين - مرة بالسيف ومرة في قبورهم – يردون إلى عذاب عظيم (2) في الآخرة. وأخبر الله عز وجل أن الشهداء في الدنيا يرزقون ويفرحون بفضل الله، قال الله عز وجل:  ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (3) وهذا لا يكون إلا في الدنيا لأن الذين لم يلحقوا بهم أحياء لم يموتوا ولا قتلوا.
باب الكلام في إمامة أبي بكر الصديق 
قال الله تبارك وتعالى:  وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستحلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعض خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا (1). وقال عز وجل:  الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (2) أثنى الله عز وجل على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام وعلى أهل بيعة الرضوان ، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل:  لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة (3) الآية. قد أجمع هؤلاء – الذين أثنى الله عليهم ومدحهم – على إمامة أبي بكر الصديق  وسمّوه خليفة رسول الله  وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة لجميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك.
دليل آخر من القرآن على إمامة الصديق   وقد دل الله على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه:  قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا (4)وقال في سورة أخرى:  سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله (5) يعني قوله:  لن تخرجوا معي أبدا  ثم قال:  كذلكم قال الله من قبل، فسيقولون بل تحسدوننا، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا  وقال:  قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن تتولوا – يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالكم – كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (6) والداعي لهم إلى ذلك غير النبي  الذي قال الله عز وجل له:  قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا (7) وقال في سورة الفتح:  يريدون أن يبدلوا كلام الله (8) فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلا لكلامه، فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه ، وقد قال الناس: فارس، وقالوا: أهل اليمامة، فقد قاتلهم أبو بكر الصديق  ودعا إلى قتالهم، وإن كانوا الروم فقد قاتلهم الصديق أيضا، وإن كانوا أهل فارس فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم، وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه القاعد له الإمامة، فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله  وجب أنه أفضل المسلمين رضي الله عنه.
دليل آخر  الإجماع على إمامة أبي بكر الصديق . ومما يدل على إمامة الصديق  أن المسلمين جميعا تابعوه وانقادوا لإمامته وقالوا له: يا خليفة رسول الله، ورأينا عليا والعباس رضي الله عنهما بايعاه  وأقرا له بالإمامة. وإذا كانت الرافضة يقولون: إن عليا هو المنصوص على إمامته، والرواندية تقول: العباس هو المنصوص على إمامته، ولم يكن في الناس في الإمامة إلا ثلاثة أقوال: من قال منهم إن النبي  نص على إمامة الصديق وهو الإمام الأعظم بعد الرسول، وقول من قال: نص على إمامة علي، وقول من قال: الإمام بعده العباس، وقول من قال هو أبو بكر الصديق هو بإجماع المسلمين والشهادة له بذلك، ثم رأينا عليا والعباس قد بايعاه وأجمعا على إمامته وجب أن يكون إماما بعد النبي  بإجماع المسلمين، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع للسلمين، وهذا يسقط حجية الإجماع لأن الله عز وجل لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس وإنما تعبدنا بظاهرهم، وإذا كان ذلك كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق.
وإذا ثبتت إمامة الصديق ثبتت إمامة الفاروق لأن الصديق نص عليه وعقد له الإمامة واختاره لها وكان أفضلهم بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وثبتت إمامة عثممان  بعد عمر بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله. وثبتت إمامة علي بعد عثمان رضي الله عنهما بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد، ولأنه لم يدّع أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد اجتمع على فضله وعدله. وإن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقا لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه، فلما كان لنفسه في غير وقت الخلفاء قبله كان حقا لعلمه أن ذلك وقت قيامه، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد. متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم، هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم، رضي الله عنهم.
وقد روى شريح بن النعمان قال: حدثنا حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان، قال: حدثني سفينة قال: قال رسول الله : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك"، ثم قال لي سفينة: أمسك، خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان. ثم قال: أمسك، خلافة علي بن أبي طالب. قال فوجدتها ثلاثين سنة، فدل ذلك على إمامة الأئمة الأربعة رضي الله عنهم.
فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فإنما كان على تأويل واجتهاد وعلي الإمام، وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي  بالجنة والشهادة، فدل على أنهم كلهم كانوا على حق في اجتهادهم. وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد. وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبرئ من كل من ينقص أحدا منهم. رضي الله عن جميعهم. قد قلنا في الإقرار قولا وخبرا. والحمد لله أولا وآخرا.

وقال الإمام أبو الحسن رحمه الله ونفعنا به آمين في كتابه الكبير؛
"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين":
هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة
جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله ، لا يردّون من ذلك شيئا، وأن الله – سبحانه – إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وأن الله – سبحانه – على عرشه، كما قال:  الرحمن على العرش استوى(1)، وأن له يدين بلا كيف، كما قال:  خلقت بيديّ (2)، وكما قال:  بل يداه مبسوطتان (3)، وأن له عينين بلا كيف، كما قال:  تجري بأعيننا (4)، وأن له وجها، كما قال:  ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (5).
وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرّوا أن الله سبحانه علما كما قال:  أنزله بعلمه (6)، وكما قال:  وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه (7).
وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال:  أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة (8).
وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر، إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عز وجل:  وما تشاءون إلا أن يشاء الله (9)، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.
وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله.
وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا [منها] شيئا.
وأن الله وفّق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم، وهدَاهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم واضلهم وطبع على قلوبهم.
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدرِه ، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومرّه، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا ما شاء الله، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله سبحانه ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال.
ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق.
ويقولون: إن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله عز وجل:  كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون (10) وإن موسى عليه السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله سبحانه تجلّى للجبل، فجعله دكّا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.
ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكباشر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر.
والإيمان – عندهم – هو الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومرّه، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، و [أن] ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان.
ويقرّون بأن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب.
ويقرون بشفاعة رسول الله  وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله عز وجل للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق.
ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله سبحانه ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله سبحانه يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله ، وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقاتُ، عدلا عن عدل، حق ينتهي ذلك إلى رسول الله ، ولا يقولون: كيف؟، ولا لم؟، لأن ذلك بدعة.
ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريدا له. ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله سبحانه لصحبة نبيه  ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضوان الله عليهم.
ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي .
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ، أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدينا فيقول: هل من مستقر؟، كما جاء في الحديث عن رسول الله ، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عز وجل:  فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول (11) ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وألا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله.
ويقرون أن الله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة كما قال:  وجاء ربك والملك صفا صفا (12)، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال:  ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (13).
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام، برٍّ وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر.
ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه  إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك.
ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصلُ إليهم.
ويصدقون بأن في الدنيا سحرةً، وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وموارثتهم. ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان. وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله. وأن الأرزاق من قبَل الله سبحانه وتعالى يرزقها عباده، حلالا كانت أم حراما. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه. وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم. وأن السنة لا تُنْسَخ بالقرآن. وأن الأطفال أمرهم إلى الله: إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد. وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله.
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والفخر والكبر والإزراء على الناس والعجب(14).
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملون ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل وإليه المصير.

ذكر قول أصحاب عبد الله بن سعيد القطّان
فأما أصحاب "عبد الله بن سعيد القطان" فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن البارئ تعالى لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عزيزا عظيما جليلا كبيرا مريدا متكلما جوّادا.
ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى سبحانه.
ويقولون: إن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته لا يقال: هي غيره، ولا يقال: إن علمه غيره كما قالت الجهمية، ولا يقال: إن علمه هو هو كما قال بعض المعتزلة، وكذلك قولهم في سائر الصفات، ولا يقولون: العلم هو القدرة، ولا يقولون: غير القدرة.
ويزعمون أن الصفات قائمة بالله، وأن الله لم يزل راضيا عمن يعلم أنه يموت مؤمنا، ساخطا على من يعلم أنه يموت كافرا، وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة.
وكان يزعم أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقوله في القدر كما حكينا عن أهل السنة والحديث، وكذلك قوله في أهل الكبائر، وكذلك قوله في رؤية الله سبحانه بالأبصار.
وكأن يزعم أن البارئ لم يزل، ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه، وأنه مستوٍ على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء.

ذكر قول زهير الأثريّ
فأما أصحاب "زهير الأثري" فإن زهيرا كان يقول: إن الله سبحانه وتعالى بكل مكان، وإنه - مع ذلك – مستوٍ على عرشه، وإنه يُرى بالأبصار بلا كيف، وإنه موجود الذات بكل مكان، وإنه ليس بجسمٍ، ولا محدودٍ، ولا يجوز عليه الحلولُ والمماسّة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى:  وجاء ربك (1) بلا كيف.
ويزعم أن القرآن كلام الله محدَث، غير مخلوق، وأن القرآن يوجدُ في أماكن كثيرة في وقت واحدٍ، وأن إرادة الله سبحانه ومحبته قائمتان بالله.
ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء من المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد، ويقول في القدر بقول المعتزلة.
ويزعم هو وسائر المرجئة أن الفسّاق من أهل القبلة مؤمنون بما معهم من الإيمان، فاسقون بارتكاب الكبائر، وأمرهم إلى الله سبحانه وتعالى إن شاء عذّبهم، وإن شاء عفا عنهم.

ذكر قول أبي معاذ التّومَنيّ
وأما "أبو معاذ التومني" فإنه يوافق زهيرا في أكثر أقواله، ويخالفه في القرآن، ويزعم أن كلام الله حدث غير محدث، ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان، وكذلك قوله في إرادته ومحبته.
قال الإمام ناصر السنة الحافظ مؤرخ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي المتوفى سنة 571 هـ في كتابه الجليل: "تبيين المعتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأِشعري":
 باب ما وصف من مجانبته لأهل البدع وجهاده 
وذكر ما عرف من نصيحته للأمة وصحة اعتقاده
أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي بنيسابور قال: سمعت الأستاذ أبا القسم عبد الملك بن هوازن القشيري يقول: سمعت الأستاذ الشهيد أبا علي الحسن بن علي الدقاق رحمه الله يقول: سمعت أبا علي زاهر بن أحمد الفقيه رحمه الله يقول: مات أبو الحسن الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري وكان يقول شيئا في نزغه في حال نزعه من داخل حلقه فأدنيت إليه رأسي وأصغيت إلى ما كان يقرع سمعي فكان يقول: لعن الله المعتزلة موهوا ومحرقوا، سمعت الشيخين أبا محمد عبد الجبار بن أحمد بن محمد البيهقي الفقيه وأبا القسم زاهر بن طاهر المعدل بنيسابور يقولان سمعنا الشيخ أبا بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي يقول: سمعت أبا حازم عمر بن أحمد العبدوي الحافظ يقول سمعت أبا علي زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري رحمه الله في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا كله اختلاف العبارات، كتب إلي الشيخ أبو القسم نصر بن نصر الواعظ يخبرني عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك وذكر أبا الحسن الأشعري فقال: نضر الله وجهه وقدس روحه فإنه نظر في كتب المعتزلة والجهمية والرافضة وإنهم عطلوا وأبطلوا فقالوا: لا علم لله ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا بقاء ولا إرادة، وقالت الحشوية والمجسمة والمكيّفة المحددة: إن لله علما كالعلوم وقدرة كالقدر وسمعا كالأسماع وبصرا كالأبصار فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: إن لله سبحانه وتعالى علما لا كالعلوم وقدرة لا كالقدر وسمعا لا كالأسماع وبصرا لا كالأبصار.
وكذلك قال جهم بن صفوان: العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء، وقالت المعتزلة: هو قادر على الأحداث والكسب معا فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: العبد لا يقدر على الأحداث ويقدر على الكسب ونفى قدرة الأحداث وأثبت قدرة الكسب، وكذلك قالت الحشوية المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يُرى مكيّفا محدودا كسائر المرئيات وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنه سبحانه لا يُرى بحال من الأحوال فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: يُرى من غير حلول ولا حدود ولا تكييف كما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيّف. فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيف.
وكذلك قالت النجارية: إن الباري سبحانه بكل مكان من غير حلول ولا جهة، وقالت الحشوية والمجسمة: إنه سبحانه حال في العرش وإن العرش مكان له وهو جالس عليه، فسلك طريقة بينهما، فقال: كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه، وقالت المعتزلة: له يد يد قدرة ونعمة ووجهه وجه وجود. وقالت الحشوية: يده يد جارحة ووجهه وجه صورة فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: يده يد صفة ووجهه وجه صفة كالسمع والبصر.
وكذلك قالت المعتزلة: النـزول نزول بعض آياته وملائكته والاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالت المشبهة والحشوية: النـزول نزول ذاته بحركة وانتقال من مكان إلى مكان والاستواء جلوس على العرش وحلول فيه، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: النـزول صفة من صفاته والاستواء صفة من صفاته وفعل فعله في العرش يسمى الاستواء.
وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع، وقالت الحشوية المجسمة: الحروف المقطعة والأجسام التي يكتب عليها والألوان التي يكتب بها وما بين الدفتين كلها قديمة أزلية، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: القرآن كلام الله قديم غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا ميتدع. فأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات والمحدودات وكل ما في العالم من المكيفات مخلوق مبتدع مخترع.
وكذلك قالت المعتزلة والجهمية والنجارية: الإيمان مخلوق على الإطلاق، وقالت الحشوية المجسمة: الإيمان قديم على الإطلاق، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، وقال: الإيمان إيمانان؛ إيمان لله فهو قديم لقوله المؤمن الهيمن وإيمان للخلق فهو مخلوق لأنه منهم يبدو وهم مثابون على إخلاصه معاقبون على شكه.
وكذلك قالت المرجئة: من أخلص لله سبحانه وتعالى مرة في إيمانه لا يكفر بارتداد ولا كفر ولا يكتب عليه كبيرة قط، وقالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعاته ماية سنة لا يخرج من النار قط، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة. فأما عقوبة متصلة مؤبدة فلا يجازى بها كبيرة منفصلة منقطعة.
وكذلك قالت الرافضة: إن للرسول صلوات الله عليه وسلامه ولعلي عليه السلام شفاعة من غير أمر الله تعالى ولا إذنه حتى لو شفعا في الكفار قبلت، وقالت المعتزلة: لا شفاعة له بحال فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما، فقال: بأن للرسول صلوات الله عليه وسلامه شفاعة مقبولة في المؤمنين المستحقين للعقوبة يشفع لهم بأمر الله تعالى وأذنه ولا يشفع إلا لمن ارتضى.
وكذلك قالت الخوارج بكفر عثمان وعلي رضي الله عنهما ونص هو رضي الله عنه على موالاتهما وتفضيل المقدم على المؤخر. وكذلك قالت المعتزلة: إن أمير المؤمنين معاوية وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وكل من تبعهم رضي الله عنهم على الخطأ ولو شهدوا كلهم بحبة واحدة لم تقبل شهادتهم. وقالت الرافضة: إن هؤلاء كلهم كفار ارتدوا بعد إسلامهم وبعضهم لم يسلموا. وقالت الأموية: لا يجوز عليهم الخطأ بحال، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما وقال: كل مجتهد مصيب وكلهم على الحق وإنهم لم يختلفوا في الأصول وإنما اختلفوا في الفروع فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى شيء فهو مصيب وله الأجر والثواب على ذلك إلى غير ذلك من أصول يكثر تعدادها وتذكارها وهذه الطرق التي سلكها لم يسلكها شهوة وإرادة ولم يحدثها بدعة واستحسانا ولكنه أثبتها ببراهين عقلية مخبورة وادلة شرعية مسبورة وإعلام هادية إلى الحق وحجج داعية إلى الصواب والصدق هي الطرق إلى الله سبحانه وتعالى والسبيل إلى النجاة والفوز من تمسك بها فاز ونجا ومن حاد عنها ضل وغوى.


الفهرس
- تصدير
- باب في إبانة قول أهل الزيغ والبدعة
- باب في إبانة قول أهل الحق والسنة
- باب الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق
- باب ما ذكر من الرواية في القرآن
- باب الكلام على من وقف في القرآن وقال: لا أقول إنه مخلوق، ولا أقول إنه غير مخلوق
- باب ذكر الاستواء على العرش
- باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين
- باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله تعالى وقدرته وجميع صفاته
- باب الكلام في الإرادة
- باب الكلام في تقدير أعمال العباد، والاستطاعة والتعديل والتجويز
- باب ذكر الروايات في القدر
- باب الكلام في الشفاعة والخروج من النار
- باب الكلام في الحوض
- باب الكلام في عذاب القبر
- باب الكلام في إمامة أبي بكر الصديق 
- الفهرس

والله أعلم بالصواب
تمت كتابة هذا الكتاب ليلة الثلاثاء
23 جمادى الأولى 1427 هـ الموافق لـ 19 يوني 2006.



Related Posts by Categories



Tidak ada komentar:

Posting Komentar